القدر في نظر الفلاسفة حتى العصر الحديث
القدر في نظر الفلاسفة حتى العصر الحديث
نشر بجريدة الشروق الخميس 18/2/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
اقتبس اليونان الأقدمون شيئًا من البابليين وشيئًا من المصريين. اقتبسوا التنجيم وطوالع الكواكب من بابل، واقتبسوا عقيدة الثواب والعقاب من مصر، ولكنهم لم يحفلوا أو لم يستطيعوا إعداد الأجساد للعالم الآخر كما فعل المصريون بإعداد الأجساد ـ بالتحنيط ـ للحياة الأخرى، وتزويدها بما تحتاج إليه في تلك الحياة من مقومات البقاء.
وكان القدر عندهم غالبًا على كل شيء.. على الآلهة والبشر على السواء، وكانوا كثيرًا ما يصورونه في أساطيرهم ومروياتهم غاشمًا ظالمًا يتجنى الذنوب على الناس، بل ويستدرجهم للزلل والغلط ليوقع بهم ما يحلو له من عقاب. وجعلوا للنقمة ربة يسمونها « نمسيس » تأخذ الجار بذنب جاره، والأبناء والأحفاد بجرائم آبائهم وأجدادهم.
وكانت صورة « زيوس » رب الأرباب في شعر « هوميروس » ـ أقرب إلى الجماح والكيد، وإلى سوء النية الذي يغريه بإذلال البشر وترويعهم.. ثم ترقى الشاعر « هزيود » إلى نمط من العدل في محاسبة الناس بميزان يميز بين الحسنات والسيئات.
ولكن المساهمة في مسألة القضاء والقدر تُحسب لليونان في الفلسفة والتفكير ـ فيما يرى الأستاذ العقاد، ولا تُحسب لهم في ميدان الدين والعقيدة، لأن ما طرقوه اقتصر على المجيء بخلاصة أقوال في مباحث الفلاسفة في هذا الباب ومن جاءوا بعدهم إلى العصر الحديث.
وأول ما يتبادر إلى الذهن من الفلسفة اليونانية، رأي الحكيمين: أفلاطون الملقب بالإلهي، وأرسطو الملقب بالمعلم الأول.
أما أفلاطون فإنه يتابع أستاذه الأول سقراط في نسبة الشر إلى الجهل وقلة المعرفة، ويرى أن الإنسان لا يختار الشر وهو يعرفه، بل يُساق إليه بجهله.. ولكنه لا يساق إليه بتقدير الآلهة، لأن الآلهة خير لا يصدر عنها إلاَّ الخير.
والشر موجود في العالم بحكم الواقع، ولكنه ليس من تقدير الإله.. ووجوده لازم مع وجود الخير، لأن الخير الاضطراري لا دلالة فيه على فضيلة فاعله، وعنده أن حرية الإنسان في طلب الكمال لا يحدها قدر مقدور مفروض من الإله الأعظم، بل تحدها عوائق الكثافة المادية أو« الهيولى»، وهى كذلك عائق في سبيل تحقيق الكمال الذي يريده الله.
أما مذهب أرسطو في القدر، فإنه يلائم مذهبه في صفة الإله، فمفهوم الإله عنده أنه بمعزل عن الكون وكل ما فيه من حىّ أو جماد، فلا يقدر له أمرًا وليس التقدير من شأنه الذي يوافق الكمال المطلق في رأي أرسطو. لأن الكامل المطلق الكمال لا يحتاج شيئًا غير ذاته.
ومذهب أرسطو في القدر يلائم هذا المذهب في صورة الإله.. فلا قدر هناك ولا تقدير، وكل إنسان حر فيما يختاره لنفسه ـ فإن لم يستطع فإنه على الأقل مستطيع أن يمتنع.
ولفلاسفة اليونان ـ غير أفلاطون وأرسطو ـ مذاهب في القدر تتراوح بين مذهب الجبر ومذهب الحرية.. وتتوسط بينهما أحيانًا في القول بالاضطرار، أو القول بالاختيار.
ويذكر الأستاذ العقاد آراء كلِّ من « ديمقريطس »، و« هيرقليطس »، و« فيثاغورس »، و« زينون »، و« أبيقور »، ليعبر بعدهم لمن يراه أهم فلاسفة اليونان رأيًا في موضوع القضاء والقدر بعد أفلاطون وأرسطو، فيبدى أنه بلا ريب : « أفلوطين » إمام الأفلاطونية الحديثة الذي ولد بإقليم أسيوط في مصر، واستفاد معظم دراساته من مدرسة الإسكندرية، ورأيه مهم في هذه المسألة، لأنه كان على اتصال شديد بالمذاهب الدينية ومذاهب التصوف على الخصوص.
ويؤخذ من أقوال « أفلوطين » المتعددة، أن الإنسان خاضع في حياته الأرضية لقضاء سابق من أزل الآزال، وأنه يعاد إلى الحياة مرات كثيرة، ويجزى في كل مرة على أعماله في حياته السابقة جزاء المثل بالمثل .
ولكن من الذي يقدر عنده هذا القدر ويكتبه لكل إنسان في سجله للحساب والقصاص ؟
يجيبنا الأستاذ العقاد بأنه في فهم أفلوطين ـ لم يكن الإله الأحد، لأن مذهب أفلوطين في الإله كان على غرار مذهب أرسطو في التنزيه والتجريد، ويتجاوزه كثيرًا في عزل الوجود الإلهي عن هذا الوجود المحسوس..
فعند أفلوطين أن « الأحد » أرفع من الوجود، وأرفع من الوعى، وأرفع من التقدير، وأنه لا يحس ذاته لأنه واحد لا يتجزأ، فلا يكون فيه « بعض » يتأمل « بعضًا »، كما يحدث في حالة الإحساس.
وعند أفلوطين أن المادة أو الهيولى لا تعقل ولا تقدر، ولا تقيم ميزان الحساب..
فإذا أردنا أن نسمى القدر في مذهب أفلوطين باسم مطابق لمراده، فهو على الأصح قدر الضرورة التي لا محيص عنها في عالم الأرواح، أو عالم الأجساد.
* * *
ارتأي الأستاذ العقاد أن يستطرد بعد كل ما عرضه، إلى تلخيص آراء الفلاسفة في القدر ـ من العصور الماضية، إلى العصر الحديث، قبل الانتقال إلى مذاهب الأديان ومذاهب العلماء الذين عرضوا لهذه المسألة من جانب العلوم الطبيعية كما عرفت في القرن العشرين .
وهو يفصح أنه سيتخطى هنا الفلاسفة الدينيين لأنه سوف يعود إليهم بعد الكلام على مذاهب الأديان، وأنه سيبدأ بالفلاسفة الذين عرضوا للمسألة من جانب البحث الفلسفي بمعزل عن المذاهب الدينية.
لا يخفي على القارئ أن الأستاذ العقاد يريد بهذا التوسع ـ أن يجلى كمال الفلسفة القرآنية في هذه المسألة، فيما جلته من حقيقة يبدو كمالها لمن ينظر كيف كان النظر قبلها وفي غيرها..
ويبدأ الأستاذ العقاد جولته في آراء فلاسفة العصر الحديث، بالفيلسوف الإنجليزي « توماس هوب ».. وهو يرى أن الإنسان يعمل ما يريد، ولكنه لا يريد ما يريد.. بل يريد ما فرضته عليه الوراثة، وطبيعة البيئة، وعادات المكان والزمان..
ويرى الفيلسوف الفرنسي « ديكارت » أن الجسد محكوم بقوانين الطبيعة كسائر الأجسام المادية، ولكن الروح طليقة منها، وعليها أن تجاهد الجسد، وتلتمس العون من الله بالمعرفة والقداسة في هذا الجهاد .
ومن تلاميذه من يقول : إن الإنسان حر في أفعاله، ولكن الله يعلم منذ الأزل ما سوف يفعله، لأنه عليم خبير..
ويرى الفيلسوف « سبينوزا » أن كل شيء يقع في الدنيا إنما كان لا بد أن يقع كما وقع، لأن كل شيء يصدر عن طبيعة « الجوهر السرمدي ».. وهو الله. وأن ما في الدنيا من خير وشر هو على السواء من إرادة الله. وأن ما يبدو لنا شرًّا سببه أننا محدودون.. أما الجوهر السرمدي فلا يعرض له النقص ولا تتصل به الأشياء إلاَّ على وجه الكمال.
ومذهب « ليبنتز » يطابق في نظر العقاد ـ مذهبه المعروف في الوحدات، فكل موجود في الكون « وحدة » مستقلة لا تتأثر بوحدة أخرى، ولكنها تتفق في الحركة كما تتفق الساعات في إشاراتها إلى الوقت دون أن تتأثر أي ساعة منها بغيرها. وأن كل وحدة من هذه الوحدات محتوية على ذاتها، محاكية في وجودها للوجود الأعلى: وهو الله.. ولكنها تتفاوت في الكمال على حسب التفاوت في المحاكاة .
والفيلسوف الألماني الكبير « عمانويل كانت »، يقرر ضرورة الأسباب في عالم التجارب المحسوسة، ولكنه يرى أن هناك عالمًا أعلى من العالم المحسوس.. هو عالم الحقائق الأدبية.. وحرية الإرادة حقيقة من هذه الحقائق عنده، فإن لم نجد لها برهانًا من ترابط الأسباب في التجارب الحسية، فإنه يكفي أن نعلم أن الإيمان بحرية الإرادة لازم لتقرير الأخلاق البشرية والتكاليف الأدبية.
أما مذهب « هيجل » فيتلخص كله في الفلسفة التاريخية التي تقرر « أن تاريخ العالم بأجمعه
إنما هو ترويض الإرادة الطبيعية الجامحة حتى تخضع من ثم لقاعدةٍ كونية عامة تتولد منها الحرية الذاتية ».
ويقوم مذهب « شوبنهور » على الإرادة والفكرة، ولكن الإرادة عنده هى مصدر الشر كله في الكون وفي الإنسان، والإرادة في الكون توحى إلى إرادة الإنسان أن يستأثر لنفسه بالمتعة ويعانى ما يعانيه من الطلب والكفاح، وأنه يظل أسيرًا لهذه الإرادة التي تعزله عما حوله ـ حتى يخلص إلى عالم الفكرة فينجو من عالم الفكـرة وينتقل إلى عالم السكينة و« العموم » الذي لا تنازع فيه بين أجزاء وأجزاء، ولا بين إرادة وإرادة.