القتل الرحيم بين الإباحة والتحريم
مقال للدكتور أحمد عبد الظاهر – أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة – المستشار القانوني بدائرة القضاء – أبو ظبي
«القتل الرحيم» أو «الموت الرحيم» أو «الموت بدافع الشفقة» يراد به إنهاء حياة المريض المصاب بمرض عضال لا يرجى شفاؤه ويعاني باستمرار، ولا يوجد ما يخفف عنه هذه المعاناة. ويستخدم في اللغات اللاتينية مصطلح (Euthanasia) للدلالة على هذا الإجراء، وهي كلمة مشتقة من اللغة اليونانية.
Euthanasia is the administration of a lethal agent by another person to a patient for the purpose of relieving the patient’s intolerable and incurable suffering.
وسنحاول فيما يلي الوقوف على موقف الأديان السماوية من القتل الرحيم، متبعين ذلك ببيان خطة التشريعات المقارنة في شأن القتل الرحيم، وذلك في مطلبين، كما يلي:
المطلب الأول
موقف الأديان السماوية من القتل الرحيم
الواقع أن المؤسسات الدينية في الأديان السماوية الثلاثة تعارض الموت الرحيم، معتبرة إياه عملاً من أعمال القتل، لا يمكن تبريره أو التسامح معه. ومع ذلك، يمكن أن نلمس اتجاهاً نحو التخفيف من حدة هذا الرفض، الأمر الذي يبدو جلياً من خلال بيان موقف كل من دار الإفتاء المصرية وموقف الكنيسة الكاثوليكية في هذا الشأن.
رأي دار الإفتاء المصرية في شأن القتل الرحيم
في الفتوى الصادرة بتاريخ التاسع من ديسمبر 2004م، تحت عنوان «القتل الرحيم»، ورداً على سؤال عن حكم الدين الحنيف في القتل الرحيم؛ بمعنى أن يطلب المريض من الطبيب إنهاء حياته بسبب شدة ألمه أو إعاقته، أو يقرر الطبيب من تلقاء نفسه أنه من الأفضل لهذا المريض أن يموت على أن يعيش معاقًا أو متألماً، أجاب فضيلة المفتي، الأستاذ الدكتور علي جمعة محمد بأن: القتلُ الرحيمُ بنوعَيْه المشار إليهما في السؤال هو في الحقيقة انتحارٌ أو قتلٌ للنفس التي حرَّم الله قتلها إلا بالحق، وهو حرامٌ شرعًا، بل من أكبر الكبائر؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ رَجُلًا مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ خَرَجَتْ بِهِ قَرْحَةٌ، فَلَمَّا آذَتْهُ انْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ فَنَكَأَهَا، فَلَمْ يَرْقَأ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ. قَالَ رَبُّكُمْ: قَدْ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّة» رواه البخاري ومسلمٌ واللفظ له.
وفي تفاصيل هذه الفتوى أن الله جل جلاله هو أرحم الراحمين بعباده، بل هو أرحم بالإنسان من أمه وأبيه والناس أجمعين؛ قال في قرآنه: ﴿وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ﴾ [البقرة: 163]، وقال في قرآنه: ﴿وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ [الأعراف: 156]، والآيات في القرآن الكريم كثيرة متعددة حول هذا المعنى، وأحاديث البشير النذير صلى الله عليه وآله وسلم ذَكَرَت هذا المعنى واضحاً جليّاً. وهذا البدن الذي أعطاه الله تعالى للإنسان ليس ملكاً له يتصرف فيه كيفما يشاء، ولكنه أمانة يُسأل عنها أمام الخالق جلَّ في عُلاه يوم القيامة؛ قال عزَّ مِن قائلٍ في قرآنه: ﴿وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 195].
والمريض الذي يطلب من الطبيب إنهاء حياته بطريقةٍ أو بأخرى فإنه يعد منتحرًا والعياذ بالله عز وجل؛ فقد أخرج الشيخان في «صحيحيهما» عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهوَ في نَارِ جَهَنَّمَ يَتَرَدَّى فِيهِ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ تَحَسَّى سُمًّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَسُمُّهُ في يَدِهِ يَتَحَسَّاهُ في نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ في يَدِهِ يَجَأُ بِهَا في بَطْنِهِ في نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا» رواه البخاري، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ رَجُلًا مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ خَرَجَتْ بِهِ قَرْحَةٌ، فَلَمَّا آذَتْهُ انْتَزَعَ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ فَنَكَأَهَا، فَلَمْ يَرْقَأ الدَّمُ حَتَّى مَاتَ. قَالَ رَبُّكُمْ: قَدْ حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّة» رواه البخاري ومسلمٌ واللفظ له، وغير ذلك من الأحاديث.
وأما إنهاء الطبيب حياة المريض لمصلحةٍ يراها مِن تلقاء نفسه، فإنه والعياذ بالله تعالى قتلٌ للنفس بغير حقٍّ؛ قال ربنا تبارك وتعالى: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 93]، وقال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ يَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إلا اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، إلا بِإِحْدَى ثَلاثٍ: النَّفْسُ بِالنَّفْسِ، وَالثَّيِّبُ الزَّانِي، وَالْمَارِقُ مِنَ الدِّينِ التَّارِكُ الْجَمَاعَةَ» رواه البخاري.
وعليه وفي واقعة السؤال: فإن القتل الرحيم بشِقَّيْهِ المنوَّه عنهما في السؤال لا يجوز شرعًا، وهو من الكبائر؛ كما جاء في جملة أحاديث عن سيدنا محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وعلى الأطباء أن يعلموا أنه لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق، فمهما طلب المريض مثل هذا المطلب فلا يستجيبون له ولا يقتلون النفس بغير حقٍّ.
ولكن، الحظر السابق لا يسري على حالة «رفع الأجهزة الطبية عن المريض الميؤوس من شفائه». ففي الفتوى الصادرة بتاريخ الثالث من يناير 2006م، ورداً على سؤال عن حكم رفع الأجهزة الطبية عن المريض الميؤوس من شفائه، وما الفرق بين ذلك والقتل الرحيم؟، أجاب فضيلة المفتي، الأستاذ الدكتور علي جمعة محمد، بأنه: يجوز شرعاً رفع الأجهزة الطبية عن المريض الميؤُوس من شفائه، التي تُستخدم في الإبقاء على حياته دون تقدم في حالته الصحية، وهو ما يُسمَّى «الموت الإكلينيكي»، فقط إذا نصح الأطباء بذلك. أما إذا كانت الأجهزة لغرض آخر كالمساعدة على سحب السوائل لتيسير التنفس أو نحو ذلك، فلا يجوز رفعها، وهذا يختلف عن ما يُسمى بـ «القتل الرحيم» الذي يطلب فيه المريض من الطبيب إنهاء حياته، أو يُقرر الطبيب ذلك من تلقاء نفسه بسبب إعاقة المريض أو شدة الألم عليه، فإن هذا حرام قطعاً؛ لأن حياة المريض هنا مستمرة وغير متوقفة على الأجهزة الطبية، غير أن المريض أو الطبيب يريد التخلُص منها بسبب شدة الألم الواقعة على المريض، فإنهاء الحياة في هذه الحالة يُعدُّ إقداماً على إزهاق الروح وقتلاً للنفس التي حرَّم الله قتلها.
ويتفق العديد من علماء الأزهر مع هذه الفتوى. إذ يعبر هؤلاء عن رفضهم للقتل الرحيم أو القتل بدافع الشفقة، مؤكدين أن مثل هذه العمليات تعد جريمة قتل موجبة للقصاص. ومع ذلك، فقد أيد بعض العلماء رفع أجهزة التنفس الصناعي عن المريض الميؤوس من شفائه، لاسيما إذا كانت أسرته لا تملك تكلفة بقاء هذه الأجهزة وأقر الأطباء بموته، كما هو الشأن بالنسبة للمريض الميت إكلينيكياً. وفي جميع الأحوال، يشترط في هذه الحالة ألا يتدخل الطبيب تدخلاً إيجابياً في هذه المسألة، كأن يعطي المريض جرعة عالية للتعجيل بوفاته أو نحو ذلك.
موقف الكنيسة الكاثوليكية من القتل الرحيم
في شهر يناير 2018م، رأى البابا فرانسيس الأول أن القتل الرحيم لا يمكن أن يعد خياراً حضارياً، وأن كرامة الإنسان لا تمس. وفي شهر سبتمبر 2020م، أصدر الفاتيكان وثيقة جديدة بهذا الشأن في وقت تتزايد فيه أعداد الدول التي تفكر في إضفاء الشرعية على القتل الرحيم ومساعدة المريض على الانتحار. ووصفت الوثيقة المشرعين والساسة المؤيدين لمثل هذه القوانين بأنهم متواطئون في ارتكاب جرائم. والوثيقة مؤلفة من عشرين صفحة، وصدرت بعنوان «السامري الصالح»، وكتبها مجمع عقيدة الإيمان، وهو المكتب العقائدي التابع للفاتيكان، وجمعت بيانات سابقة لكنيسة الروم الكاثوليك حول قضايا إنهاء الحياة، لكنها استخدمت تعبيرات أشد قوة وصرامة. وأكدت الوثيقة بشكل واضح وصريح أن «القتل الرحيم.. عمل شرير في جوهره.. في كل الأحوال والظروف.. القتل الرحيم هو فعل من أفعال القتل لا يمكن لأي غاية أن تبرره».
ومع ذلك، وفي السادس عشر من نوفمبر 2017م، قال البابا فرانسيس إنه رغم أن القتل الرحيم هو «دائماً خطأ»، إلا أن وقف علاج مرضى يحتضرون يحتمل أن يكون جائزاً في بعض الحالات. وفي رسالة لمؤتمر الجمعية الطبية العالمية الذي استضافه الفاتيكان حول القضية، أوضح البابا أن المبدأ الكاثوليكي الخاص بحرمة الروح لا يبرر «العلاج المفرط» للمصابين بمرض عضال لا أمل في الشفاء منه.
المطلب الثاني
القتل الرحيم في خطة التشريعات المقارنة
يكاد ينعقد إجماع التشريعات العربية على حظر وتجريم القتل الرحيم. فعلى سبيل المثال، وفي دولة الإمارات العربية المتحدة، وطبقاً للمادة العاشرة من المرسوم بقانون اتحادي رقم (4) لسنة 2016م، «1- لا يجوز إنهاء حياة المريض أيا كان السبب، ولو بناء على طلبه أو طلب الولي أو الوصي عليه. 2- لا يجوز رفع أجهزة الإنعاش عن المريض إلا إذا توقف القلب والتنفس توقفا تاما ونهائيا، أو توقفت جميع وظائف المخ توقفا تاماً ونهائياً، وفقا للمعايير الطبية الدقيقة التي يصدر بها قرار من الوزير، وحكم الأطباء بأن هذا التوقف لا رجعة فيه». وتضيف المادة الحادية عشرة من القانون ذاته أنه «يجوز السماح بحدوث الوفاة الطبيعية وذلك بعدم إجراء الإنعاش القلبي الرئوي للمريض في حالة الاحتضار، وذلك عند توفر الشروط التالية: 1- إذا كان المريض يعاني من مرض غير قابل للشفاء منه غالبا. 2- أن يتم استنفاد كافة طرق العلاج. 3- أن يثبت عدم جدوى العلاج في مثل هذه الحالة. 4- أن ينصح الطبيب المعالج بعدم إجراء الإنعاش القلبي الرئوي. 5- أن يقدر ثلاثة على الأقل من الأطباء الاستشاريين أن مصلحة المريض تقتضي السماح بحدوث الوفاة الطبيعية وعدم إجراء الإنعاش القلبي الرئوي، ولا يشترط في هذه الحالة الحصول على موافقة المريض أو وليه أو الوصي عليه. 6- ولا يجوز الامتناع عن إجراء الإنعاش في حالة طلب صريح من المريض ولو كان الإنعاش غير مجد لعلاجه».
وفي المملكة الأردنية الهاشمية، ووفقاً للمادة السادسة عشرة من قانون المسؤولية الطبية والصحية رقم 25 لسنة 2018م، المنشور على الصفحة 3420 من عدد الجريدة الرسمية رقم 5517 بتاريخ 31 مايو 2018م، «أ. لا يجوز إنهاء حياة متلقي الخدمة أيا كان السبب ولو كان بناء على طلبه أو طلب وليه أو الوصي عليه. ب. لا يجوز رفع اجهزة الانعاش عن متلقي الخدمة إلا إذا توقف القلب توقفاً تاماً ونهائياً، أو توقفت جميع وظائف الدماغ توقفاً تاماً ونهائيا وفقاً للمعايير الطبية الدقيقة وقرر الاطباء المعالجون بأن هذا التوقف لا رجعة فيه».
وفي المقابل، تجيز بعض الدول الأجنبية ما يطلق عليه «القتل الرحيم» أو «الموت الرحيم». وكانت هولندا الدولة الأولى في العالم التي تجيز القتل الرحيم، وحدث ذلك في العام 2002م، وحذت حذوها بلجيكا بعد عدة أشهر، وتبعتها بعد ذلك العديد من البلدان مع مراعاة بعض الشروط الصارمة. وتعتبر سويسرا أشهر دولة في العالم فيما يتعلق بالموت الرحيم، وبحيث يختار العديد من الأجانب السفر إليها للحصول على الموت الرحيم بها، الأمر الذي أطلق معه البعض على هذه الممارسة تعبير «سياحة الانتحار». ففي سنة 2020م، اختار نحو 1300 شخص إنهاء حياتهم بشكل إرادي في سويسرا، من خلال اللجوء إلى خدمات أكبر مُنظَمَتين متخصصتين في الانتحار بمساعدة الغير، وهما (Exit) و(Dignitas). وفي نهاية شهر مارس 2022م، وفي مقابلة تليفزيونية لقناة (RTL) الفرنسية، صرح ابن الممثل الفرنسي الشهير «ألان ديلون»، بأن والده طلب إنهاء آلامه ومعاناته مع المرض، بالخضوع للموت الرحيم في سويسرا، وذلك بعد تدهور حالته الصحية المستمر منذ 2019، على إثر إصابته بجلطة دماغية.
وفي الأسبوع الثاني من شهر يوليو 2022م، وفي دولة بيرو، وبعد معركة قانونية طويلة استمرت خمس سنوات، أكدت المحكمة العليا حكماً سابقاً يسمح لإسترادا، وهي طبيبة نفسية تبلغ من العمر 44 عاماً، بإنهاء حياتها. وبمقتضى هذا الحكم، صادقت المحكمة العليا على قرار سابق للمحكمة يلزم التأمين الصحي الحكومي في بيرو بتوفير جميع الشروط للقتل الرحيم فيما يتعلق بحالة إسترادا، والتي يجب تنفيذها خلال عشرة أيام من التاريخ الذي عبرت فيه عن رغبتها في إنهاء حياتها. وبموجب القانون البيروفي، فإن مساعدة شخص ما على الانتحار وقتل مريض مصاب بمرض عضال يشكل جريمة معاقباً عليها بالسجن. ولكن، المحكمة العليا أعفت الطبيب الذي قدم دواءً يهدف إلى إنهاء حياة استرادا من أي عقوبة. ومن المقرر أن تعقد المحكمة العليا جلسة استماع نهائية للبتَ في طريقة تنفيذ الحكم والجهات الطبية التي ستشرف عليها. وتعاني استرادا منذ ثلاثة عقود من التهاب العضلات، وهو مرض نادر يؤدي إلى ضمور هذه العضلات، وبالتالي فقدانها القدرة على الحركة تماماً. وبسبب هذا المرض، أمضت استرادا معظم حياتها مستلقية على سرير متصل بجهاز تنفس ميكانيكي وبمساعدة شبه يومية من ممرضة.
وفي بلد كاثوليكي محافظ مثل البيرو، حيث لا يزال الإجهاض وزواج المثليين غير قانونيين، يُنظر إلى قرار المحكمة على أنه علامة فارقة في الجدل حول القتل الرحيم. وفي أمريكا اللاتينية، فإن دولة كولومبيا فقط هي التي تسمح بهذا الإجراء، ولكن بشروط معينة.