الفطنة الآدمية أحوال وأطوار (5)

الفطنة الآدمية أحوال وأطوار (5)

نشر بجريدة الوطن بتاريخ الجمعة 25/12/2020

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

«أنا» الآدمي منذ خُلق إلى اليوم طموحة طموعة لم تعرف بعد معنى وكلمة وقيمة الاعتدال والاتزان والاستقامة الأكيدة إلا لدى أقل القليل من الأفراد النوادر.. ربما لأن قيمة الاعتدال أو الاتزان أو الاستقامة لم تعرفها بعد «أنا» الآدمي.. في طفولته أو صباه أو مراهقته.. ولا في شبابه أو رجولته أو كهولته أو شيخوخته!.. جرى ذلك لآلاف السنين الآدمية التي لا يبالي بها كثيراً هذا الكون الهائل العظيم الذي صار بادياً لنا الآن.. وربما تتخلى «الأنا» تدريجياً عن طموحها وطمعها المألوفين الخبيثين إذا ما التفتت إلى العناية الذكية باستغلال منافع الكواكب وما فيها من قوى ومواد مما صار الآن في أيدي البشر من ارتياد الفضاء الواسع.. هذا الارتياد الجاري ليل نهار ولأمد يطول أو لا يطول ويقل أو يكثر.. ثم بدقة تتزايد قدرتها باستمرار على تصحيح ما تصورناه حقيقياً حتى الآن في هذه الأرض التي طال انفراد البشر عليها في التخمين والتقليد والتغيير والإهمال والتخريب.. وطال تاريخهم فيها بين الأمل واليأس والهمة والكسل والصعود والهبوط.. دون ميزان عام سليم ثابت في تقدمه يربط حاضره بماضيه ويربط مستقبله بحاضره بلا تعثر نكابده الآن وسوف يكابده الآتون من بعدنا بما هو أشد وأنكى!

و«أنا» الآدمي إذ تبدأ من ميلاده، فإنها تبدأ طفولة ساذجة كلها عاطفة، رضا غامض ورفض صارخ.. ثم تنمى رضاها وسخطها في أيام وليال وأشهر وسنوات في كل اتجاه.. تحاكى وتقلد وتختار وتشتهي لنفسها.. وتشعر بالأنا وتعرف عقلها الذي لم ينضج بعد والذي ينضج بعدئذ بقدر ما قسم لها هي لا أكثر ولا أقل.. إذ توقن أن الحياة أولاً وأخيراً هي حياتها الذاتية المحدودة التي لا بد أن تنتهي تاركة ما ومن كان معها لغيرها وللعدم أيضاً رضيت أو لم ترض! إذ «الأنا» ليست إلا حياة هذا الآدمي أو ذاك أما توسعاتها في نظر الآدميين قديمة أو حالية أو منتظرة أو مستقبلة، فمحض أغلفة بشرية يتداولها الآدميون بشغف أو بعناد أو بتسليم أو بحسرة.. لم ولن يتركوها لأنها خلقة تالية عليهم أن يحملوها أو يتحملوها!

وحرص البشر دائم وملحوظ على أغلفة تضم طبقاتها وطياتها جماعات الآدميين الأحياء وأنواعهم وشبكاتهم وأمكنتهم وأزمنتهم وزياداتهم وتقلصاتهم وزوال الزائل منهم.. مع التعرض الدائم لاختلاف الأجناس والأقاليم والأجيال والمراحل والأعمار ولزوم الحياة المحدودة حتماً ببداية ونهاية تتغاير وتتفاوت جسارة وجبناً ورواجاً وكساداً واندفاعاً واستسلاماً وتقدماً وتأخراً وتحضراً وتخلفاً ووجوداً ثم عدماً.. إذ بقاء الآدمي في هذه الدنيا وقتي بالضرورة المحتومة.. كل موجود زائل لأنه مخلوق حىّ أحاطه البشر بالزمان والمكان وأمده الخالق سبحانه وتعالى «بالأنا».. بها يحس أنه حىّ معها فقط، وبدونها ليس له وجود خاص! وسبحان القائل في كتابه العزيز: «كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَان وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ».

و«أنا» الآدمي دائماً تحركه وتهدئه وتسكنه، وترسم في حياته ما يحب وما لا يحب، وما يرجو وما لا يرجو، وما يتشكك فيه ويستريبه وما يأمن إليه ويثق فيه، وما يحلو وما يمرّ، وما يغلو وما يرخص، وما يقوى عليه أو ما يخضع ويستسلم له.. لأن «أناه» تحيا وتموت معه في هذه الدنيا.. عديدة بعدد الأفراد وتواليهم وجوداً وزوالاً، مختلفة باختلاف كل منهم عن الآخر برغم دوام تحقق الائتناس وعكسه بين بعضهم وبعض في كل مكان وزمان..

وأغلفة «الأنا» عديدة.. أهمها حواس الآدمي وحبه الشديد للمال والتملك والتسلط وآخرها في الترتيب عقل الآدمي، برغم أنه أكثر ما يستخدم ويستعمل في خدمته وامتثاله وطاعته وموافقته للأنا على ما تشتهي وتريد، وأقل ما يستعمل في إصدار الحكم العادل الصادق أو النصيحة السديدة والحلول السليمة في متاعب البشر.. وهي غير قليلة لأي آدمي.. رفيعاً كان أو وضيعاً!.. والأموال هي دائماً ساحرة «الأنا» وداهيتها في الوقت نفسه، ومحنتها وبلاؤها.. وهي لم تهن ولا تهون على «أنا» أحد قط إلا الأنبياء وأشباههم.. وكانوا قلة قليلة في الزمن الماضي المتباعد، ولم يعد يقوى اليوم على حمل ذلك إلا نادر النادر.. هذا إن ثبت وجوده وصح إصراره ودام إلى انتهائه!

فهل تجد «الأنا» بعد الآن في دنيانا خلاف ما اعتادت عليه؟! وعلى أي أساس؟! وهل ذلك التغيير مأمول يلتفت إليه البشر على هذه الأرض أو في جوفها؟ أم الأمل في انطلاق يتزايد في الفضاء الهائل يقنع «الأنا» بضرورة التواضع والتطامن في التعامل مع العقل ليسير مستقبلهما معاً في أمان دون تسيد وتسلط؟.. لقد خطت اليوم باطراد أعداد محدودة من البشر نجحت في ارتياد الفضاء من أكثر من خمسين سنة.. زاد باستمرار علمهم ومعرفتهم بما فيه.. ونزلت قلة قليلة من الناس على سطح القمر وعادت منه إلى الأرض بمثل ما يوجد عليها.. برغم انعدام الأحياء في القمر فيما يبدو واختلاف الجو فيه عن غلافنا الأرضي!

ومنذ الستينات في القرن الماضي نظمت الدول المتقدمة في الحضارة تنظيماً مرتباً دورياً بطائرات ومركبات خاصة لا تعمل إلا للفضاء الواسع البعيد عن جونا وأرضنا ذهاباً إليه وعودةً إلينا.. أو ذهاباً فقط بغير عودة.. وترسل مواكيك الفضاء خلال رحلاتها ما يمكنها إرساله من معلومات قيمة للمتخصصين من أهل الأرض.. ينتفع بها هؤلاء وأولاء.. وزاد اطراد الاهتمام الشديد لدى هذا الجانب المحدود من الناس عمقاً واتساعاً وزماناً ومكاناً وإتقاناً في الفحص والدقة والعمق.. لم يسبق لذلك كله من قبل مثيل أو نظير.. ومع ذلك لا يتخلى معظم الناس عن التشبث الشديد بالأنانية والجشع الذي يسود اليوم جميع الطبقات والمجتمعات بلا استثناء!

 

زر الذهاب إلى الأعلى