العملات الرقمية والتطور الاقتصادي والتجريم القانوني
بقلم الدكتور/ محمد طرفاوي محمد
عرضنا في مقال سابق – نشر بموقع النقابة بتاريخ 17 فبراير 2022- فكرة العملات المشفرة وأسباب نشأتها، وما صاحبها من تطور إلى أن أصبحت وسيلة دفع لكبريات الشركات بالعالم، وفي المقابل وجدنا أن المشرع المصري جاء بقانون البنك المركزي الحالي والصادر سنة 2020 محرماً التداول في العملات المشفرة، فورد في نص في نص المادة (206) من قانون البنك المركزي رقم 194 لسنة 2020 ما نصه أن” يحظر إصدار العملات المشفرة أو النقود الالكترونية أو الاتجار فيها أو الترويج لها أو إنشاء أو تشغيل منصات لتداولها أو تنفيذ الأنشطة المتعلقة بها بدون الحصول على ترخيص من مجلس الإدارة طبقاً للقواعد والإجراءات التي يحددها.”
رغم ما انتهينا إليه في المقال السابق من خطورة العملات الرقمية على الاقتصاد القومي إلا أننا لا ننكر الان أنها أصبحت حقيقة واقعة يجب التعامل معها، فمع الانتشار الكبير والاستثمارات الضخمة وتجاوز رأسمال سوق العملات الرقيمة الثلاثة تريليون دولار أصبح الامر بعيداً عن فكرة التجاهل ويجب أن يتم التعامل مع العملات الرقمية كحقيقة واقعة شئنا أم أبينا.
جاء تطور العملات الرقمية نتيجة للفكر العالمي نحو التوجه للعالم الرقمي بشكل عام، فتطورت العملات الرقمية تبعاً لذلك بشكل كبير وغير متوقع ما أدي لنتائج كثيرة، منها على سبيل المثال السيطرة على جزء كبير من الاقتصاد العالمي، والهيمنة على تعاملات أفراد وشركات، وظهور شركات وساطة ورعاية للعملات الرقمية أصبحت قيمتها بالمليارات كشركة بينانس وكوين يبز وروبن هود وهي جميعا منصات لتداول العملات الرقمية.
وتطور الفكر الحكومي في الدول إزاء التعامل مع العملات المشفرة، فنجد البنوك المركزية في الوقت الحالي – وقد تعاملت مع العملات المشفرة كحقيقة واقعة – قامت باقتراح مشاريع عملات رقمية لعملة الدولة، فظهرت هذه الفكرة في الصين التي تعد حالياً عملة اليوان الرقمي، كما ظهرت في الولايات المتحدة التي تعد حالياً الدولار الرقمي ودول أخري.
بينما قامت حكومات أخري بالتعامل بشكل مختلف إذ قامت بالاعتراف بالعملات الرقمية الموجودة حالياً دون التفكير في إطلاق عملة رقمية وطنية، كبعض دول أمريكا الجنوبية، ومما سبق يتضح أن العملات الرقمية أصبحت حقيقة يجب التعامل معها، وأن الحكومات التي مازالت تجرم التعامل بها أو التداول فيها أصبحت كالنعامة التي تضع رأسها في الأرض ظناً منها أنها نجت من المشكلة أو قامت بحلها.
فيجب بناءً على ما سبق أن يقوم المشرع المصري بدراسة تتضمن عدة جوانب حتى يحاول معالجة الوضع والتعامل مع هذه الفكرة وقد صارت حقيقة واقعة، يجب أن تتم دراسة الجوانب الاقتصادية لكيفية التعامل مع العملات الرقمية، لا من حيث تجريمها، بل من حيث التعامل معها كحقيقة ومحاولة دمجها في الاقتصاد الوطني، وتكمن أهمية ذلك في وضع إطار اقتصادي واضح يوازن بين أمرين: الأمر الأول: حماية الاقتصاد المصري من سلبيات العملات الرقمية؛ الامر الثاني: بيان الوسائل الصحيحة لكيفية التعامل معها كحقيقة واقعة يجب التعامل معها لا تهمل أو تجرم دون حل جذري للمشكلة.
كما يجب دراسة الأبعاد القانونية لكيفية صياغة تشريع للتعامل مع العملات الرقمية في ظل نتائج الدراسات الاقتصادية، ويضمن ذلك مع دمج الجانب الاقتصادي والقانوني إطار تشريعي واضح لا لبس فيه ولا غموض وصياغة محددة يمكن من خلالها معالجة مشكلة العملات الرقمية.
كما يجب ان يقوم القطاع الخاص بدوراً فعالاً في هذا الإطار، إذ يجب أن يوفر معاملات خاصة ودراسات خاصة مع عمليات إدارة للمخاطر الاستثمارية ويضعها بين يدي الدولة حتى يسهل فكرة التعامل مع العملات الرقمية في ظل انتشار العديد من المؤسسات الوطنية في الدول الأجنبية، وهو ما يعنى أن لهم تجربة في التعامل مع العملات الرقمية وتعامل الحكومات معها، وكذلك أفكاراً مبتكرة لإدارة المخاطر حفاظاً على الاقتصاد الوطني.
ولا يجب أن ننسي حقيقة هامة وهي أن تنظيم العملات الرقمية يساهم بشكل فعال في حماية الاقتصاد الوطني ومكافحة عمليات غسل الأموال من خلال وضع هذه التعاملات تحت رقابة جهة رقابية محددة كما فعلت الدول الكبرى كالولايات المتحدة الامريكية واليابان ودول أوروبا.
الخلاصة:
نوصي المشرع المصري بضرورة التعامل مع العملات الرقمية كحقيقة واقعة في ظل التطور السريع للاقتصاد العالمي وتأثيرها الكبير في الوقت الحالي عليه، كما نوصي بأن تشكل لجنة من خبراء الاقتصاد وأسواق المال وإدارة المخاطر بجانب عدد من القانونين لصياغة تشريع ينظم العملات الرقمية في مصر مع الوضع في الاعتبار أن الهدف الأول منه التعامل مع المشكلة وحلها وحماية الاقتصاد الوطني ومواكبة التطور، كما نوصي بإنشاء هيئة مستقلة للرقابة على عمليات التداول أو التعامل مع العملات الرقمية حرصاً على مكافحة سلبياتها لاسيما عمليات غسل الأموال، وبالأخير التجريم المطلق الوارد بقانون البنك المركزي الحالي لن يجدي نفعاً في التعامل مع العملات الرقمية ويجب إعادة النظر في هذا النص (نص المادة 206 من قانون البنك المركزي) فمواجهة المشكلة هو أول طريق الحل، والهروب منها هو أو طريق التعقيد، وله آثار مدمرة خاصة مع التطور السريع في هذا المجال.