
العلانية في المحاكمات الافتراضية
مقال بقلم الدكتور أشرف نجيب الدريني
هل يمكن للعدالة أن تظل هي ذاتها إذا انتقلت من قاعة المحكمة ذات الجدران العالية والأبواب المفتوحة للجمهور، إلى شاشة باردة لا يعرف من يتحكم فيها إلا مشرف تقني؟ وهل يظل لمبدأ العلانية معناه الحقيقي إذا صار مجرد رابط إلكتروني لا يصل إليه إلا من أراد له النظام أن يصل؟ وهل نستطيع أن نقول للناس باطمئنان: لقد عُقدت المحاكمة علناً، بينما لم يشهدها إلا القاضي والمحامون والمتهمون، وغاب عنها الجمهور الذي يمثل عين المجتمع ورقيب العدالة؟ هذه الأسئلة تفتح باباً عميقاً للنقاش حول أزمة العلانية في المحاكمة الافتراضية، حيث يلتقي القانون مع التكنولوجيا، وتتصارع القيم الإنسانية مع مقتضيات الواقع الجديد.
منذ نشأة المحاكمات الجنائية، كانت العلانية روح العدالة، لا لأنها تسمح للجمهور بالفرجة، بل لأنها تُشعر الجميع أن السلطة القضائية لا تعمل في الخفاء، وأن القاضي ليس سيداً مطلقاً وإنما خادم للعدالة تحت رقابة المجتمع. في المحاكم التقليدية، كان مجرد جلوس الناس على المقاعد الخشبية في قاعة المحكمة كافياً ليبعث رسالة قوية: العدالة هنا تُمارس أمامكم، وكل كلمة تُقال، وكل شاهد يُستمع إليه، وكل دفوع تُعرض، إنما تمر في الضوء وتحت أنظاركم.
غير أن المحاكمة الافتراضية جاءت لتقلب هذه المعادلة رأساً على عقب. ففي فرنسا، حينما فُرضت بعض المحاكمات عن بُعد خلال جائحة كورونا، اشتكى محامون من أن “الجمهور الافتراضي” لم يكن سوى خيال، وأن القاعة الرقمية أغلقت أبوابها أمام المتابعين العاديين. وفي بريطانيا، رغم أن القانون سمح ببث المحاكمات عبر منصات إلكترونية، فإن هذا البث كان غالباً مقيداً، يخضع لإذن أو ترخيص، مما جعل العلانية أقرب إلى الامتياز منها إلى الحق. أما في مصر، فبينما يُطرح المشروع الطموح لتطوير المحاكم رقمياً، فإن السؤال ما زال قائماً: كيف سنضمن أن باب المحكمة الرقمية سيكون مفتوحاً بنفس القدر الذي كان فيه باب المحكمة التقليدية؟
الثغرة الكبرى تكمن في أن العلانية الرقمية قد تتحول إلى علانية شكلية، بلا مضمون إنساني. فالتجربة أظهرت أن البث المباشر قد يتعرض للانقطاع أو التقييد، وأن التسجيلات قد تُحجب بحجة حماية الخصوصية أو الأمن العام، وأن الجمهور قد يُقصى بسهولة بقرار تقني غير قابل للمراجعة. هنا تضيع العلانية وتصبح مجرد صورة باهتة، لا تتيح للناس أن يلمسوا العدالة ولا أن يعيشوا تفاصيلها. العدالة تحتاج إلى أن تُرى بوضوح، لا أن تُنقل بانتقائية.
خذ مثلاً محاكمة افتراضية يُسمح فيها للصحفيين بمتابعة مقتطفات مختارة فقط. صحيح أن الحكم سيُعلن علناً، لكن ما قيمة إعلان الحكم إذا غاب الطريق الذي قاد إليه؟ ألا يحق للناس أن يعرفوا كيف ناقش الدفاع دفوعه؟ وكيف واجهت النيابة هذه الدفوع؟ وكيف كوّن القاضي اقتناعه؟ إذا اختُصر كل ذلك في جملة: “بعد أن استمعت المحكمة إلى الدفاع والنيابة، حكمت بكذا…”، فإن العلانية تكون قد ماتت، وبقي فقط شبحها.
إن شروط العلانية لا تتحقق إلا بثلاثة عناصر مترابطة: الإتاحة، والشفافية، والاستمرارية. الإتاحة تعني أن يكون باب المحاكمة مفتوحاً أمام كل من يريد الحضور، لا لفئة مختارة. والشفافية تعني أن ما يُعرض أمام القاضي يُعرض في الوقت ذاته أمام المجتمع، بلا حجب أو انتقاء. أما الاستمرارية فتعني أن العلانية لا تختزل في لحظة إعلان الحكم، بل تمتد لتغطي كل مراحل المحاكمة منذ افتتاح الجلسة وحتى النطق بالحكم.
ولعل أخطر ما يهدد العلانية في المحاكمة الافتراضية هو وهم الاكتفاء بإعلان الحكم. صحيح أن كل التشريعات تقرر أن الحكم يُعلن علناً حتى لو كانت الجلسة سرية، لكن الإعلان هنا ليس سوى خطوة أخيرة. أما العدالة الحقيقية فهي في الطريق الذي سلكته المحكمة قبل الوصول إلى هذا الحكم. فإذا حُجب هذا الطريق، فإن المجتمع يفقد الثقة في الحكم ذاته، مهما كان عادلاً في جوهره.
هناك من يجادل بأن التكنولوجيا يمكن أن تكون وسيلة لتعزيز العلانية، عبر البث المباشر المفتوح على الإنترنت، أو من خلال تسجيل كامل للجلسة متاح للجميع. وهذا صحيح من الناحية النظرية، لكنه عملياً محفوف بالمخاطر: قد يُقيّد البث لأسباب تقنية أو سياسية، وقد تُقطع بعض الأجزاء بحجة النظام العام، وقد تُفرض قيود على النشر تجعل العلانية مجرد وهم. وهنا تتجلى الحاجة إلى ضمانات قانونية صارمة، تفرض على الدولة فتح أبواب المحاكمة الرقمية بنفس القدر من الصراحة والانفتاح الذي كانت عليه المحاكم التقليدية.
في النهاية، تظل العلانية ليست مجرد إجراء إجرائي، بل هي قيمة إنسانية، ومبدأ أخلاقي، وشرط جوهري لشرعية العدالة الجنائية. العدالة التي لا تُرى تفقد مشروعيتها، مهما كانت محكمة في نصوصها ودقيقة في إجراءاتها. صحيح أن المستقبل قد يفرض علينا الانتقال إلى المحاكمات الافتراضية، لكن مستقبل العدالة لا يمكن أن يقوم على طمس ما كان في الماضي ضمانة للحاضر. فالحكم سيُعلن في كل الأحوال، لكن إعلان الحكم لا يكفي إذا لم يُبصر الناس الطريق الذي أوصل إليه. العدالة التي تُمارس في الظلام تُفقد الناس ثقتهم في القانون، أما العدالة التي تُمارس في النور، سواء في قاعة تقليدية أو افتراضية، فهي وحدها القادرة على أن تظل حية نابضة بالثقة والاطمئنان. والله من وراء القصد.