العلاقةُ الجدليَّةُ بين برامجِ الذكاء الاصطناعيِّ وآلاتِه وعلومِ القانونِ وصناعاتِه [4]
الدكتور/ محمد عبد الكريم أحمد الحسيني، رئيس قسم القانون والسياسة الشرعية – كلية الشريعة والقانون، والمحامي
لا يزالُ “القانون وصناعاته” يتبوَّأُ الصدارةَ في معظم التقارير الرسمية وشبه الرسمية باعتباره واحدًا من أبرز الوظائف التي سوف تتأثر بشدة بتطور الذكاء الاصطناعي مع استمرار عمليات “الأتمتة” automationو”الإحلال الرقمي” digital substitution للوظائف.
وقد لفت أحد التقارير إلى أن “تأثير الذكاء الاصطناعي سيختلف بحسب القطاعات المختلفة التي يعمل بها، حيث يمكن استخدامه لإنجاز 46% من المهام الإدارية و44% من المهن القانونية“، كما رصدت التقارير مِهنًا وأعمالا كثيرة غير قانونية سوف ينال منها الذكاءُ الاصطناعيُّ، تتصدَّرُها “مهنةُ المحاسبة” والأعمال المحاسبية. [راجع على سبيل المثال، وكالة سبوتنيكsputnikarabic.ae/2023-3-29، وانظر صحيفة البيان (دبي) 9رمضان 1444هـــ، – 31 مارس 2023م]
ولعل السؤال المثار هنا هو:
*ما الذي يجمع بين (القانون والمهن القانونية) وبين (المحاسبة والأعمال المحاسبية) في التأثر العنيف بالذكاء الاصطناعي وبعمليات الأتمتة والإحلال الرقمي؟
والإجابة بإيجاز تكمن في الآتي:أولا: بالنسبة للمحاسبة يكمن سرها في طبيعتها المحاسبية وفي تعلقها بعلوم الرياضيات وبالمنطق الحسابي، ولا يخفى أن “لغة الرياضيات” إنما هي لغة العلوم الطبيعية والتطبيقية بالدرجة الأولى، ويعبر عن هذه الأخيرة –أي: العلوم التطبيقية- بالدرجة الأولى “علوم الحاسب الآلي” Computer Science))مثل علم البيانات (Data science) والذكاء الاصطناعي Artificial intelligence)) وتعلم الآلة (Machine Learning) التعليم العميق ( deep learning)
وهذه المفردات الحاسوبية التطبيقية كلها متفرعة عن الإطار الأوسع وهو “إطار الذكاء الاصطناعي” والذي ينتمي بدوره لعلوم الحاسب الآلي، وجميعها يقوم على محاكاة العقل البشري والذكاء البشري ومن ثم أطلق عليه اسم “الذكاء الاصطناعي”، وعليه فإن المحاسبة والمهن المحاسبية تعدُّ اختصاصا أصيلا للحاسوب وآلاته وللذكاء الاصطناعي روبوتاته.
ولم لا ….. ؟؟!!
وهو يقوم على لغة الرياضيات وعلى منطق رياضي محكم يمثل عصب خوارزميات الذكاء الاصطناعي (AI).
ثانيا: بالنسبة للقانون والأعمال القانونية
وهو ابتداء موضع سلسلة مقالاتنا الموسومة بــ “العلاقةُ الجدليَّةُ بين برامجِ الذكاء الاصطناعيِّ وآلاتِه وعلومِ القانونِ وصناعاتِه” وهو على ما أشرنا إليه سابقا يتمثل في الآتي :
أولا: طبيعة القاعدة القانونية وبالأحرى [(منطق القاعدة القانونية)] ذلك المنطق العام المطرد والمتسق مع أصول تلك القاعدة، ومع قيامها على منطقٍ نظامي عام قوامه التصورات والمقولات المبنية على اتجاهات فلسفية كلية تعبر عن “البراديم العام للقانون”، ويمثل هذا المنطق نواة جوهر الذكاء الاصطناعي –في الحقل القانوني- والقائم على البيانات والخوارزميات ولذلك أسمينا منطق القاعدة القانونية والمنطق القانوني بــــ”الخوارزميات القانونية “” Legal algorithm
ثانيا: تماسك المنطق القانوني العام وسيطرته على العلوم والنصوص والممارسات القانونية .
وقد كان هو موضوع المقال السابق فليرجع إليه.
ثالثا: اللغة القانونية الموحدة.
وهي ما سوف نأتي عليها بالتفصيل، ويكفي في هذا المقام التذكير بأن الذكاء الاصطناعي إنما يسمى بــ”الذكاء اللغوي التوليدي” وأن تشات جي بي يقوم على النماذج اللغوية الكبيرة، بل إن اللغة وفهمها وتعرف أنماطها والاقتدار على الربط بين مدخلاتها ومخرجاتها هو سر الذكاء الاصطناعي في شقه المسمى بــ”التعلم العميق” ( deep learning) حيث الخلايا العصبي الاصطناعية Artificial Neural Network – ANN) ) ومعالجاتها التي تحاكي عمل خلايا العقل البشري.
تفصيل أدوار “منطق القاعدة القانونية في تعزيز الذكاء الاصطناعي في الحقل القانوني”
تعدُّ “القاعدة القانونية” روح القانون ومكنونه الحي، وما القانون إلا “قاعدة قانونية منظمة” وكذلك فإن القاعدة ما هي إلا ضابط قانوني عام ومجرد يحمل فرضه وما يجب القيام به إزاء هذا الفرض، وهي مع ذلك قاعدة معيارية مطردة تنطوي على اللزوم بما يحمي أمريَّتها وبما يحقِّقُ قصدَ المشرِّع من فرضها لغايةٍ هي تنظيمُ السلوكاتِ الفردية في المجتمع وحماية الحقوق والحريات، وبسط العدالة العامة.
ولكي تحقق القاعدة القانونية عموميتها واطرادها في اتساق لا تناقض فيه فإنها تقوم –بالضرورة- على منطق قانوني محكم يضمن تماسكها ويقوِّم عموميتها ويحافظ على تجريدها.
وتتجلي منطقية هذه القاعدة في الآتي:
التجلي الأول: منطقية بنية القاعدة القانونية الذاتية .
بحيث إنها بنية متسقة لا تناقض فيها على المستوى الذاتي الداخلي، هو أول درجات الاتساق ولا يتصور صلاحيتها أو عموميتها أو اطرادها حال اعتراها التناقض أو التخالف أو النقص الداخلي.
التجلي الثاني: روابطها مع القواعد مثيلاتها.
وهي روابط ضرورية لا تخرج عن الآتي :
أولا: الروابط القانونية التشاركية :
ونقصد بالروابط التشاركية تلك الأصول التي تتشارك فيها هذه القاعدة القانونية مع مثيلاتها من القواعد، وهي بمثابة “الأب الأصولي القانوني” لها، وهذه “الأصول الأبوية للقواعد القانونية” هي التي تضمن لها ما يليها من روابط وهي الروابط التصادقية والتكاملية.
ولا يخفى أن هذه الأصولَ تمثلها التصوراتُ الأساسيةُ المأخوذة عن الاتجاهات الفلسفية وهو ما يمكن تسميته “بالبراديم القانوني“، أضف إلى ذلك أن الروابط تتراتب وتتراكب هكذا.. فيبنى تاليها على سابقها ويؤسس سابقها لتاليها فهي:
1- روابط تشاركية حيث (الأصول الأبوية للقاعدة القانونية، أو براديم القاعدة القانونية).
2- الروابط التصادقية، وهي نتيجة للتشارك الأصولي ومن ثم صدق بعضها بعضا .
3- ثم الروابط التكاملية، وهي نتيجة أيضا لما سبقها حيث تتكامل القواعد القانونية في التشريع الواحد بل وفي التشريعات العامة والخاصة للنظام القانوني الوطني لتحقيق غايات القانون في تنظيم سلوكيات الأفراد في المجتمع وفي حماية المبادئ العامة للمجتمع والحقوق والحريات وفي بسط العدالة وضبط الأمن .
والحاصل:
أن وحدة المبادئ الأصولية يضمنها مبدأُ التشاركية، أي إنها تشترك في أب أصولي أو براديم أصولي واحد يمثله:
أ-المصدر الواحد للقاعدة القانونية .
ب-مادة المصدر وهي “النص التشريعي”.
ج- التصورات العامة المأخوذة عن المصدر.
د- التأصيلات العامة ومقتضياتها المأخوذة من المصدر وفق التصورات العامة .
هـ- التصورات العامة المأخوذة عن الاتجاهات الفليفية القانونية العليا.
ومبدأ التشاركية هو الأساس الاتساقي لما سيكون من علاقات تالية بين المبادئ الأصولية القانونية، وهو ما يعني:
1-ضرورة تحقق التشاركية الفعلية بين القواعد القانونية، حيث (وحدة المصدر ووحدة التصورات ووحدة التأصيلات المأخوذة عن نصوصه وحضور تصوراته – ثم وحدة المقتضيات )
2- تحقق التشاركية في التصادقية لأنها مردود مباشر لها وناتج ضروري عنها.
3- قيام التكاملية على التصادقية، فالسلامة المنطقية أولا، ثم تصديق القواعد بعضها لبعض ثانيا، ثم تعاونها في مساق واحد وتكاملها في أداء الغايات والأهداف هو ناتج ما سبقه جميعا.
ثانيا: الروابط القانونية التصادقية
بمعنى أن كل قاعدة تصدق الأخريات من القواعد، فهي تنسجم معها مباشرة أو غير مباشرة بتكامل أو بتناسق على نحو ما قد سبق، وعلى أي حال يمتنع منعا باتا أن تناقض قاعدةٌ قانونيَّةٌ قاعدةً أُخرى أو أن تعاكسها أو تعاندها…!!!!
فهذا لا يصح…!!! بل لا يتصور أبدًا…!!
وفي حالة وقوعه فإنه ينقض غزل النص القانوني ويقوض ماهيته التي قوامها الاتساق والاطراد والعمومية والتجريد!.
ثالثا: الروابط القانونية التكاملية:
بمعنى إنها –أي: القاعدة القانونية- وإن كانت قاعدة مستقلة إلا أنها لا تعمل وحدها مستقلة في معزل عن غيرها؛ بل إنها تتكامل معها موضوعيا إن كان يجمعهما نفس الموضوع فتكمل أحداهما الأخرى في تشكيل العمومية القانونية والإطار القانوني القاعدي لهذا الموضوع، وقد يكون التكامل نسقيا إذا كان الموضوع مغايرا لكل منهما.
والحاصل أن روابط القاعدة القانونية مع مثيلاتها تقوم على التكامل الموضوعي والوظيفي
التجلي الثالث: علاقاتها الإذعانية والأمرية معا.
وهنا يرد السؤال كيف تكون علاقات القاعدة إذعانية وأمرية استعلائية معا ؟ .. أليس هذا تناقضا ؟
نجيب فنقول:
لا تناقض ألبتة ، فالقاعدة القانونية بالنظر إلى مستواها في النظام القانوني الوطني إما أن تكون قاعدة فوق دستورية أو دستورية أو دون دستورية أي (قاعدة تشريعية عادية) وهذا يعني أنها إما أن:
1- تكون القاعدة أمرية استعلائية ملزمة بالنسبة للقاعدة القانونية التي تليها أو التي دونها.
2-تكون القاعدة إذعانية مطاوعة للقاعدة التي تعلوها فهي تنحكم بها وتذعن لها.
وهذان مظهران من مظاهر التماسك والترابط القاعدي القانوني، بل هو أبرز ما يميز منطق القاعدة القانونية فضلا عن المنطق القانوني في عمومه.
وهذا الترابط وذلك التماسك والانسجام بين القواعد القانونية هو ما يتماشى مع طبيعة الذكاء الاصطناعي التي تقوم على ركيزتين أساسيتين هما :
(1) ركيزة بيانات.
(3) ركيزة الخوارزميات
وهما ما يمثلان المعاني والدلالات القانونية والقواعد المنطقية التي تربط بينها وتحدد أنماطها وتعين الخلايا العصبية في محاكاة العقل الإنساني لاصطناع الأنماط ومن ثم المعالجة وتكوين المخرجات .
تلك كانت بعض الجوانب الفنية الدقيقة التي يُستحب أن يتعرَّفها القانونيون العميقون المعنيون بمتابعة المنطق القانوني وتعرف كيف تعمل الآلات، وكيف يتم تعليم الآلة في الذكاء الاصطناعي عموما وفي المجال القانوني خصوصا بطريقة تحاكي العقل البشري بعامة والعقل القانوني بخاصة، ونكمل بإذن الله تعالى في المقالات التالية.