العلاقةُ الجدليَّةُ بين برامجِ الذكاء الاصطناعيِّ وآلاتِه وعلومِ القانونِ وصناعاتِه [3]
الدكتور محمد عبد الكريم أحمد الحسيني
رئيس قسم القانون والسياسة الشرعية – كلية الشريعة والقانون، والمحامي
حتى تمَّ اختراعُ الحاسوب (الكمبيوتر) في العقد الرابع من القرن العشرين -معتمدا على الـمُدخلات البيانية بالمنطق الرمزي الرياضي ولغة البرمجة الأولية ( 0/1)- كان الحديثُ عن “الذكاء الاصطناعي ومقارباته” بابا من الحكي وضربًا من اللَّغْوِ..!!
وقد ظهرَ الحديثُ عن الخوارقِ الشبيهة بالذكاء الاصطناعي منذُ القديمِ حيث عصرُ الفلاسفةِ الكلاسيكيين بناء على أساطير الأولين وأحاديث التالين أو على أفكار مغرقة في المثالية ..!! فتحدثوا فيها عن الوعي الفائق لنوعيات من البشر أو من الكائنات الأخرى ..!!
غير أنه باختراع الحاسوب (الكمبيوتر) وهو تلك الآلة الذكية التي تعتمد في جوهرها على التفكير المنطقي الرياضي حتى ” ألهم هذا الجهازُ والأفكارُ التي تقف وراءه حفنة من العلماء للبدء بجدية في مناقشة إمكانية بناء الدماغ الإلكتروني”.
وانقلبت الأمور حينئذ من حقل المِخْيال والأذهان إلى حقْلِ البحثِ والإمكانِ.. وفقًا لمقولة “كل معقول فهو موجود، أو قابل للوجود”؛ فكان ظهور مصطلح “الذكاء الاصطناعي” Artificial intelligence)) – في سنوات الخمسينيات، حيث استُخدم للمرة الأولى خلال مؤتمر “جامعة دارتمورث” بشأن الذكاء الاصطناعي في صيف عام 1956م، ثم تداعى الطامحون عليه وتم تداوله ما بين صعود وهبوط حتى آل بنا الأمر إلى رفع شعار :
“الذكاء الاصطناعي هو الكهرباء الجديدة. وبالكاد لا أستطيع أن أتخيل صناعة لن يُغيرها الذكاء الاصطناعي”.
[أندرو أن جي، الرئيس التنفيذي – Landing AI و deeplearning.ai – نقلا عن صفحة المنظمة العالمية للملكية الفكرية (الويبو) ]
ولأن ما يعنينا هو البعد القانوني تأثيرا وتأثرا فهذا بوْحٌ موجزٌ يمكننا أن نبتدر به مقالنا عن سرِّ اشتباكِ الذكاء الاصطناعي مع العلوم القانونية وصناعاتها ومع القانونيين ووظائفهم النظامية في كل مستوياتها، وعن مفهوم “الذكاء القانوني الاصطناعي” Artificial Legal intelligence)) وهو ذلك المصطلح الذي يعني القانونيين في المقام الأول، ذلك لأن الذكاء فيه قانوني قبل أن يكون اصطناعيا، بمعنى: أنه ذكاء اصطناعي خاص بالقانونيين قبل غيرهم، وهم –أي القانونيين- مَنْ يقومُ على إعداد مدخلاته وعلى تحديد أغراضه وتعيين نواتجه والتحكم فيه وفقا لأغراض الجماعة القانونية على ما سيأتي تفصيلا.
إعادة صياغة العلاقة الجدلية بين الذكاء الاصطناعي والقانونيين
يمكننا اختزالُ سر العلاقة الجدلية بين برامج الذكاء الاصطناعي وآلاته وعلوم القانون وصناعاته، وإعادة صياغتها من منظور جديد -إضافة لما عبرنا عنه ذي قبل- في شقين رئيسين:
الشق الأول: اللغة القانونية الموحدة”
وليست هي تلك اللغة العرفية التي تشمل المعاني القانونية المتبادرة إلى الذهن، ولا هي مجرد اللغة المشتملة على بعض الاصطلاحات القانونية أو تلك التي يتداولها القانونيون بعامة، ولكنها “اللغة التقنينية الفنية” التي تقومُ على تماسك منطقي، وعلى أساس علمي، وعلى نظرية معرفية متكاملة قوامها :
أ-إطار نظري Theoretical framework
ب- إطار مفاهيمي Conceptual framework
ج –إطار عملي Practical framework
وهي لغة نظامية تعالج:
1- أصول التقنينات ومبادئها.
2- قوانين الصياغة وقواعد النظم والبناء التشريعي.
فضلا عن أصول ومبادئ:
1-الفهم القانوني .
2- التفسير القانوني العلمي الصحيح المبني على منطقية بنائية وعبارية، وعلى دلالية سياقية متناظرة ومتماسكة في مقدمات مترابطة وفي تلازمية منطقية ضرورية ينبني عليها نتائج برهانية لا تحتمل إلا الصواب.
ولسوف نأتي على ذلك في شرحنا لنسق “اللغة القانونية الموحدة” تفصيلا.
الشق الثاني: نسقية المنطق القانوني العام ورديفه المنطق الخاص :
ويعبر هذا الشق الثاني عن النسيج العام للقانون وتلك النظامية المتماسكة للقانون الخاص في مجموع أجزائه الأربعة كما افترضناها وهي ما يمكن تسميته باسم “الانتساقية المنطقية الموحدة” للقانون في عمومه.
أما عن تفسير ما سبق –على نحو شبه مفصل- فالأصل أن نبدأ فيه من الأعلى إلى الأدنى، أي من الأصول إلى مقتضياتها يتلوها توابعها ثم متعلقاتها.. ولسوف نلتزم بهذا الترتيب قدرَ المستطاع، وقد نتجاوزه أحيانا لعوارض تستدعيه بناء على السياقات والمقاربات الموضوعية لكل مقال على حدة .
أما عن أهم الأصول التي بناء عليها سوف يتشكل النسقُ القانونيُّ للذكاء الاصطناعي العام –في المجال القانوني- ولمفهوم “الذكاء القانوني الاصطناعي” فهو يتكونُ من:
- المنطق القانوني العام .
- المنطق القانوني الخاص.
- اللغة القانونية الموحدة .
- الصناعات القانونية الأساسية.
- الصناعات القانونية الفرعية.
- متعلقات الصناعات القانونية.
وجدير الإشارة إلى الأصول العليا لكل ما سبق وهي :
- الفلسفة القانونية العليا.
- النظرية العامة للغة القانونية الموحدة.
- الإطار المعرفي للغة القانونية ومنطقها اللغوي القانوني
مع أطره الثلاثة:
أ-الإطار النظري العام
ب-الإطار المفاهيمي العام.
ج-الإطار العملي العام.
هذا هو الأصل وفقا للمنهج النظامي في تناول العلاقة الجدلية ما بين الذكاء الاصطناعي وآلاته وما بين القانون وعلومه ووظائفه، وهو ما لا يمكن الالتزام به على هذا النحو في سلسلة هذه المقالات –وإنما مقام الالتزام بهذا التسلسل التفصيلي سوف يكون في الدراسة الجارية باسم تلك المقالات وفي دراستنا المستقلة “النماذج القياسية القانونية وبرمجيات الذكاء الاصطناعي” من خلال نماذجها الثلاثة :
1-النموذج اللغوي القانوني القياسي.
2-النموذج المنطقي القانوني القياسي.
3-النموذج القانوني القياسي للتشريعات
وهو ما نسميه بــ”الهندسة القانونية التشريعية” في سياقيها الموضوعي والإجرائي.
ولنبدأ الآن في تناول المنطق القانوني العام وأجزائه الخاصة باعتباره المعبر عن النسيج القانوني في كل مضامينه ومساقاته.
تفصيل شق المنطق القانوني وعلاقته بالذكاء الاصطناعي:
يعد المنطقُ القانونيُّ عصبَ القانون وأساسه، فهو عقله المدبر وهو شبكته النسقية وهو إطاره الزمكاني –لو صح التعبير- والذي لا يتصور أن يخرجَ عنه أو أن يجاوز أفاقه، ومن ثم فإننا:
(نذهب إلى الاعتداد بالنسقيةِ المنطقية باعتبارها طبيعةً جوهريةً للمنطقِ القانونيِّ العام في نظامه وتنظيمه وممارساته، وفي موضوعاته وفي إجراءاته وفي صناعاته ومتعلقاته).
أولا: تعريف المنطق القانوني العام
في ضوء ما سبق يمكننا تعريف المنطقُ القانونيُّ العامُّ بأنه:
(1)
“حالة من الاتساق (التكامل والتصادق النسقي) بـيـن البِنى القاعديَّةِ العامة لهذا المنطق”.
(2)
أو هو “نظام نسقيٌّ حاصل بالضرورة بـيـن البِنى القاعدية العامة للمنطق القانون (في نظامه وتنظيميه وفي ممارساته (تطبيقاته) ومخرجاته)”.
(3)
أو هو أيضا: “ضرورة نسقية قائمةٌ بـيـن البِنى القاعدية الأساسية وبـيـن التنظيمات والممارسات والمخرجات”.
ثانيا: العناصر الأساسية في المنطق القانوني العام :
يعبر عن هذه العناصر الأساسية خمسة أبنية وهي تقارب في مضمونها ووظائفها نظام الآلات الذكية والروبوتات في الذكاء الاصطناعي، ونسمى هذه العناصر بأبنية المنطق القانوني العام وهي خمسة على النحو التالي:
🟥 البناء الأول: المنطق النظامي
ويعبر عنه:
1- منطق المقولات العليا
2- منطق النظريات القانونية.
3 – منطق المبادئ القانونية ذات الصفة الدولية والعامة
🟥 البناء الثاني: المنطق التنظيمي
ويعبر عنه:
1- منطق الإجراءات.
2- منطق المادة القانونية الاجتماعية الخام.
3- منطق التقنينات (أو منطق صناعة التقنينات).
🟥 البناء الثالث: منطق التطبيق
ويعبر عنه :
1-منطق الاستدلال.
2- منطق الاتهام والدفاع.
3- منطق الفصل القضائي ومتعلقات.
🟥 البناء الرابع: منطق التنفيذ
ويعبر عنه:
1- منطق التنفيذ الموضوعي والإجرائي
2 – منطق المؤسسات العقابية :
أ-كوادرها.
ب- وبرامجها
ج-مخرجاتها.
🟥 البناء الخامس: منطق الصيانة التقنينية
ويعبر عنه :
1- منطق التقييم (والتغذية الراجعة)
2 – منطق التجديد والتطوير.
هذا على سبيل الإجمال، ولسوف نأتي على تفاصيل ذلك في المقالات اللاحقة بإذن الله تعالى.