العقيدة الإلهية في القرآن

العقيدة الإلهية في القرآن

نشر بجريدة الشروق الخميس 4/2/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

من درر الأستاذ العقاد الرائعة، كتاب « الله » ــ بحث في نشأة وأطوار العقيدة الإلهية، منذ اتخذ الإنسان ربًّا في العهود الغابرة، إلى أن عرف الله الواحد الأحد، واهتدى إلى نور ونزاهة التوحيد. وقد عرضت له في المجلد الأول لمدائن العقاد التي امتلأت بالصروح والأشجار الباسقة.

على أنه هنا، في أطار تقديمه « الفلسفة القرآنية »؛ يتناول الموضوع في القرآن الحكيم ليرينا جوهر هذه العقيدة الإلهية فيه.

يدور الحديث في مسائل ثلاث: العقيدة الإلهية، ومسألة الروح، ومسألة النور.

الإله

« قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُن لَّهُ كُفُوًا أَحَدٌ ».

« هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ».

« كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ».

« خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ ».

« وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ».

« وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ ».

« وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ».

« أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ ».

« وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ».

« وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ».

« لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ».

« لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ».

*      *      *

في هذه الآيات القرآنية مُجمل العقيدة الإلهية في الإسلام..

وهي أكمل عقيدة في العقل.

وأكمل عقيدة في الدين.

خالقٌ واحد، لا أول له ولا آخر، قدير على كل شيء، عليم بكل شيء، محيط بكل شيء، وليس كمثله شيء..

وعالَم مخلوق، خلقه الله، ويرجع إلى الله ويفنى كما يوجد بمشيئة الله..

وبلغة الفلسفة، فإن هذه العقيدة تورى بوجودين: وجود الأبد، ووجود الزمان..

وهكذا يؤمن المسلم بوجود الإله.. فلا أول له ولا آخر، وليس لأوليته ابتداء، ولا لوجوده انتهاء.. ولا يسع العقل أن يبلغ من الإيمان به فوق مبلغ الإسلام.. وليس بنا حاجة لأن نطيل القول في قِدَم العالم وحدوثه، فكل ما قيل عن قِدَم العالم خُلْفٌ ليس له طائل، ولا يبطل عقيدة واحدة من عقائد الإسلام.

وصفاته سبحانه وتعالى، هي الصفات التي تنبغي لكل كمال مطلق منزه عن الحدود..

والكمال المطلق واحد لا يتجزأ، ولا يكون كمالاً مطلقًا إلاَّ إذا كان غايةً في القدرة والعلم والرحمة والإحسان والتصديق..

وأصدق الإيمان، وأصدق التفكير أيضًا ـ أن الله سبحانه وتعالى ليس كمثله شيء، وأنه جل جلاله يدرك الأبصار، ولا تدركه الأبصار.

يقفي الأستاذ العقاد بأنه خير لنا من الخوض في تقسيمات الصفات النفسية، أو الصفات الثبوتية، أو الصفات السلبية ــــ أن نضرب مثلاً واحدًا لخطأ العقول في استلزام بعض الصفات وبطلان بعض الصفات، فيما هو محسوس قابل للامتحان والاختبار، وهو علاقة الجوهر البسيط بصفة البقاء، أو صفة التنزه عن الانحلال.

فالأقدمون أو أكثرهم، اتفقوا على أن الكائنات العلوية، كالشموس والأفلاك، خالدة لا تقبل الفناء لأنها من نور، والنور جوهر بسيط والجوهر البسيط لا يقبل التركيب ولا يقبل الانحلال أو الانقسام.

وها نحن قد عرفنا اليوم أن هذه الكيانات أو الأجسام كلها ذرات، وأن الذرات كلها تنفلق أو تنحل فتصير إلى شعاع أو تصير إلى نور.

ومع هذا تألفت من هذا النور عناصر، وتألفت من هذه العناصر أجسام، وتألفت من هذه الأجسام ألوان وأشكال وأطوار وأحوال، هي هذه المادة أو « الهيولى » التي قيل في المذاهب القديمة إنها معدن الفساد المنحل، ونقيض الجوهر البسيط.

إن غاية الغايات أن نقول إن الوجود الأبدي أكمل وجود، وإن أكمل وجود يخلق وجودًا آخر دونه في الكمال، وإن الوجودين لا ينعزلان.

إن الكون عظيم واسع لا شك في عظمته واتساعه، ولكن الإنسان لا يقنع بعظمته واتساعه ليؤمن به ويطمئن إليه، وإنما يركن إلى الإيمان حين يبحث عن إرادة حية وراء الكون، ووراء الأسباب فيه والمسببات..

فعلاقة الدين علاقة حية بين خالق واع ومخلوقات واعية، تدعوه فيستجيب وتؤمن به وتصلى إليه وتؤمن بجدوى الصلاة..

والقرآن صريح في إثبات هذه العلاقة بين المعبود وعباده، فيقول: « وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ » ( البقرة 186 ).

والقرآن صريح كذلك في حث الناس على الاستعانة والاعتماد على أنفسهم، مع اعتمادهم على الله في مقام الدعاء والصلاة.

ولا يعنى هذا أن المراد بالإيمان بالله قائم على الحاجة إليه، وإنما هو قائم على الإيمان بقدرته وكماله وعدله وسلطانه في الوجود واتصاله بهذا الوجود.

ولا مانع مطلقًا من تأثير العوامل الروحية في أحداث الكون قياسًا على ما نعاينه من ماديات، وقد استشهد الإمام الغزالي في « تهافت الفلاسفة » بأنه لو لم ير الإنسان بعينيه أن المغناطيس يجذب إليه الحديد ـ لما صدق ذلك، ولا ستنكره. لأنه بنى تصوره على الماديات أن الشيء لا يُجذب إلا بخيط يشده، ولا يدرك ـ ما لم يشاهد ـ أن المغناطيس فيه قوة لهذا الجذب غير مرئية لحواسنا. هذا وليس بشرط كما أوضح الإمام الغزالي أن تكون أسباب المؤثرات الروحية من النوع المعهود لنا في دنيا الماديات والمرئيات.

ويأخذ الأستاذ العقاد على العلماء أو أدعياء العلم والعقل، أنهم يشاهدون مثالاً لذلك، فإذا ما عجزوا عن تعليله أو تخمينه، لاذوا بالسكوت مع تسليمهم بأنه غير معقول وغير مفهوم.

ومع ذلك يستكثرون تأثير الروح في الأرواح، وتأثير العقل في العقول، وشخصيًا قد قرأت بل ورأيت في عالم الأرواح الذي صار علمًا يدرس في بعض الجماعات، صورًا لهذا التأثير بين الأرواح وبين العقول.

*     *      *

أما فلسفة القرآن في إثبات وجود الله عز وجل ــــ فهي جماع الفلسفات التي تمخضت عنها أقوال الحكماء في هذا الباب.

وأشهر هذه الحجج ثلاث: ( 1 ) برهان الخلق المعروف بالبرهان الكونى ( 2 ) وبرهان النظام المعروف ببرهان الغاية أو القصد ( 3 ) وبرهان الاستعلاء أو الاستكمال المعروف ببرهان القديس انسلم.

وفحوى برهان الخلق أو البرهان الكوني أن المحركات لا بد لها من محرك لا تجوز عليه الحركة، وأن الممكنات لا بد لها من موجد واجب الوجود ( لذاته )، وإلاَّ لزم التسلسل إلى غير نهاية.. وهذا الموجد الواجب الوجود لذاته ــــ هو الله.

وفحوى برهان القصد أن نظام العالم يدل على إرادة محيطة بما فيه من الأسباب والغايات.

وفحوى برهان المثل الأعلى ـ أن العقل إذا تصور شيئًا عظيمًا تصور ما هو أعظم منه، وكل عظمة يوجد ما هو أعظم منها، حتى ينتهي التصور إلى العظمة التي لا مزيد عليها، وهذه العظمة فوق التصور، لأنها الله، فهو سبحانه الأعظم.

والقرآن الكريم يكرر هذه البراهين في غير موضع، ويقيم الحجة بوجود المخلوقات على وجود الخالق وبنظام الكون على وجود المدبر المريد، وبإثبات المثل الأعلى لله فوق كل مثل معروف أو معقول.

إن توكيد القرآن الكريم لوحدانية الله كتوكيده لوجوده، وتوكيده لعظمته ـ سبحانه المثل الأعلى، وحجج القرآن على الوحدانية قاطعة.. «لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ » ( الأنبياء 22 )، « قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً » ( الإسراء 42 ).

ومتى ثاب المسلم إلى هذه الحكمة القرآنية في أمر الإله، يكون قد تزود من كتاب دينه بعقيدة كاملة صححت أخطاء الديانات السابقة كما صححت أخطاء الفلاسفة، وإذ قامت الديانات على الإيمان، ولا أحق بالإيمان ـ من إله واحد صمد سميع مجيب ليس كمثله شيء وهو محيط بكل شيء، فبهذا قد أتى القرآن بحقيقة الحقائق في العقيدة الإلهية.

زر الذهاب إلى الأعلى