العقيدة الإلهية في الإسلام
بقلم : الأستاذ رجائى عطية، نقيب المحامين
نشر بجريدة الشروق الخميس 11/11/2021
ــــــ
لا مراء أن العقيدة فى الإله على رأس كل العقائد الدينية , وقد رأينا كيف أنها أدل على نصيب العقيدة الدينية من رقعة الفهم والوجدان , وكيف كان النظر فى صفات الله مجالاً لتنافس أكبر العقول ، سواء من أصحاب الفلسفة الفكرية ، أو من دعاة وأصحاب الحكمة الدينية .
وقد رأينا أن مذهب أرسطو قائم على أن الإله كائن أزلى ، مطلق الكمال ، لا أول له ولا آخر ، ولا عمل له ولا إرادة ، ولا يناسب الإله فى مذهبه أن يبتدئ العمل فى زمان ، لأنه أبدى سرمدى لا يطرأ عليه طارئ أو يستجد عليه جديد ــ يدعوه إلى عمل .
والسؤال : هل استطاع أرسطو بتجريده الفلسفى أن يسمو بالكمال الأعلى فوق مرتبته التى يستلهمها المسلم من عقيدة الإسلام ؟
يأتى الجواب بالنفى اليقينى ، فإن الله فى الإسلام إله صمد ، لا أول به ولا آخر ، وله المثل الأعلى . فليس كمثله شىء ، وهو ـ سبحانه ـ محيط بكل شىء .
وفلسفة الدين هنا اصح من فلسفة الفلاسفة إذا قيست بالمقياس الفلسفى الصحيح ..
فصفات الإله التى تعددت فى عقيدة الإسلام ، زادت فنفت النقائص التى لا تجوز نسبتها إلى الله … فإيمان المسلم بأن الله عليم قدير فعال لما يريد كريم رحيم ، ينزه الإله عن نقائص الجهل والجحد والغشم التى وقع فيها المتفلسفون . فالله ـ تعالى ـ الكامل المنزه عن جميع النقائص ، قادر بمقتضى قدرته أن يعمل ويخلق ويريد لخلقه ما يشاء ، ومقتضى عمله وخلقه أنه منزه عن تلك « العزلة السعيدة » التى توهمها أرسطو مخطئًا فى التجريد والتنزيه .
الإله عند أرسطو لا يعقل إلاَّ ذاته ، ولا يعقل ما دونها ، ولا إرادة له لأن الإرادة فى رأيه طلب والله كمال لا يطلب شيئًا .. ولا شىء فى عقيدة الإسلام عن هذا الطلب الذى توهمه أرسطو وبنى عليه ، فإنما أمره سبحانه إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون ..
« وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ » ( البقرة 117)
« إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ » ( آل عمران 47)
« إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ » (النحل 40)
« سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ » ( مريم 35)
وعند أرسطو أن الإله لا يعقل ما دون ذاته ، ويجله عن علم الكليات والجزيئات لأنه يحسبها ـ أى أرسطو ـ من علم العقول البشرية !
ولكن الله ـ فى عقيدة الإسلام ـ عالم الغيب والشهادة ..
« وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ » (يونس 61)
« وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ » (يس79)
« وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ » (المؤمنون17)
« وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا َ» (الأعراف89)
« أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ » (الأعراف 54)
« عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ » (فاطر38)
وهو سبحانه وتعالى مريد وفعال لما يريد ..
« إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ » (هود107)
وقد قال اليهود الذين عاصروا بدايات الإسلام فى المدينة بعد الهجرة ــ قالوا قولاً إدًّا ، وكان ذبك بمناسبة خاصة تتعلق بالزكاة والصدقات فى أقوال بعض المفسرين ، ولكن العبرة هى بعموم النص لا بخصوص السبب أو المناسبة .
قال القرآن الحكيم ردًّا عليهم : « مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ » ( المائدة 117 ) .
ولا يفوت أن « عموم النص » واضح .
وقد أشار القرآن الكريم إلى خلاف بين الأديان المتعددة ، فجاء فيه فى سورة الحج :
« إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيد » (الحج 17)
وأشار إلى الدهريين فجاء فى سورة الأنعام .. « وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ » ( الأنعام 29 ) .
وجاء بسورة الجاثية ..
« وَقَالُوا مَا هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلا الدَّهْرُ وَمَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ » (الجاثية 24) .
فكانت فكرة الله فى الإسلام هى الفكرة المتممة لأفكار كثيرة موزعة فى هذه العقائد الدينية وفى المذاهب الفلسفية التى تدور عليها . ولهذا بلغت المثل الأعلى فى صفات الذات الإلهية ، وتضمنت تصحيحًا للضمائر وتصحيحًا للعقول فى تقرير ما ينبغى لكمال الله ، بقسطاس الإيمان وقسطاس النظر والقياس .
ومجمل ما يقال ـ فيما أبدى الأستاذ العقاد ، عن عقيدة الذات الإلهية التى جاء بها الإسلام ـ أن الذات الإلهية غاية ما يتصوره العقل البشرى من الكمال فى أشرف الصفات .
وقد قال أفلاطون قديمًا إن الزمان محاكاة للأبد ، وفى ذلك أسباب لأن الزمان مخلوق والأبد غير مخلوق .
فبقاء المخلوقات بقاء فى الزمن ..
وبقاء الخالق ـ سبحانه ـ بقاء أبدى سرمدى لا يحده ماضٍ أو حاضر او مستقبل ..
فالله تعالى هو « الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ » (الفرقان58)
« وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ » (المؤمنون80)
« كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ » (القصص88)
« كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإكْرَامِ » (الرحمن26 ، 27) .
* * *
بداهة لم تكن رؤى أرسطو أو أستاذه أفلاطون موجهة ضد الإسلام ، فقد عاشا قبل قرون من نزوله ، ولكن الأستاذ العقاد يريدنا أن نعرف كيف نسجت الأباطيل لدى السابقين عن عقيدة الإله ، لنرى المساحة الهائلة التى قطعها الإسلام لرد هذه العقيدة إلى السواء .
لا شك فيما يقول الأستاذ العقاد ـ أن البيئة التى عاش فيها « الفيلسوفان » ، كانت منبتة الصلة عن التنزيه الفلسفى الذى حاولاه ، والذى يكاد يكون خيالاً جامحًا بالنسبة إلى العقائد الإلهية التى كانت فاشية آنذاك بين الكهان والمتعبدين من أبناء اليونان .
كانت صورة « جوبيتر » رب الأرباب عندهم ، أقرب إلى صورة الشيطان منها إلى صورة الأرباب المنزهين . كان حقودًا لدودًا مشغولاً بشهوات الطعام والغرام لا يبالى إلاَّ بما يعينه على حفظ سلطانه والتمادى فى طغيانه .
وكنت أحب أن أعرض لك ما أورده الأستاذ العقاد عن غضبات أو شطحات من جعلوه ربًّا للأرباب ، لولا أن المقام يضيق هنا عن هذا الاستطراد . وإن لزم أن أبدى أن الأستاذ العقاد عرج من أرباب اليونان ، إلى الهند القديمة التى طويت هياكلها ومعابدها على طوائف من الأرباب منها ما يلحق بالحيوان وعناصر الطبيعة ، ومنها ما يلحق بالأوثان والأنصاب ،
وكثير منها يتطلب من سدنته أن يتقربوا إليه بالبغاء المقدس أو ما يسمى بالكاما سوترا فى الأساطير الهندية ـ وسفك الدماء .. وأن هذه الأرباب المتعددة آلف فى الهند القديمة إلى الثالوث المقدس : « براهما » و« فشنو » و« سيفا » ، وزادوا على ذلك أن جعلوا لكل إله قرينًا يسمونه « الشاكتى » أو الزوجة أو الصاحبة ، وينسبون إليها الشرور التى لا يحبون نسبتها إلى الإله الذى صاغوه !
وليس يخفى أن هذه الأرباب لا تبتعد عن صور الشياطين والعفاريت والأرواح الخبيثة المعهودة فى أقدم الديانات ، وحينما أرادوا فى الهند القديمة الارتفاع فى معارج التنزيه والتجريد ، بلغوا صورتين مختلفتين ، إحداهما صورة « الكارما ـ Karma » ، والصورة الأخرى « النرفانا ـ Nirvana » ، وكلتا الصورتين من المعانى الذهنية التى لا توصف بها الذات الإلهية .