العقاد ومجمع الأحياء ( 2 )
من تراب الطريق (1082)
العقاد ومجمع الأحياء ( 2 )
نشر بجريدة المال الأربعاء 14/4/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
ما إن فرغت اليمامة من عرض منطقها، حتى وثب الثعلب ليأخذ مكانها، ويدلى هو الآخر بدلوه.. فكان كلامه تعبيرًا صادقًا عن صفاته وخصاله.. أخذ على اليمامة توصيفها لهم بالضعفاء.. أما هو فيقول لهم إن الله تعالى أكثر من هذه المخلوقات لأنه قدر عليها الفناء في معترك الحياة العصيب، وأنهم إذا أرادوا لأحوالهم أن تستقيم فعليهم أن ينبذوا هذه الكلمات الفارغة: العدل والحق والواجب والضمير.. فإنها أوهام يضيع الجهد وراءها هدرًا.. فلا عدل لأنه لا مساواة بين قوى وضعيف !. ولا حق مادام الجهل يغطى على أبصار الجاهلين والخوف يلجم أفواه العارفين.. ومادام العدل مستحيلاً والحق معدومًا.. والواجب مجهولاً فلا ضمير !
ما الحل إذن في نظر الثعلب المكار ؟.. إنه يقول إن كل شيء له وجهان.. حتى الوجود نفسه له وجه واضح وآخر غامض لا تراه الأنظار.. وما نراه كريها من السجايا له أيضا لزومه وله فوائده.. فلولا الحسد ـ هكذا يقول ـ لما كان الحافز إلى الكمال.. ولولا البغض لما كان الاستنفار لمقاومة ظلم العدو.. وهكذا.. إذن، فلتطلق القيود من الغرائز المستقرة في الفطرة فهي أفضح الفضائح، وليستفد كل قوى بقوته، ويسلم كل ضعيف بضعفه.
ختم الثعلب كلماته هذه بين وجوم الحاضرين، وأخلى مكانه للقرد ليقول كلمته.. فقال فيما قال: لله درك يا ثعالبة: ما أدهاك وأعظم كيدك في نصحك وأشد محاباتك وتدليسك.. لقليل والله عليك أن يجزيك أبو الحارث على هذه الخطبة البليغة بقفص من الدجاج. معشر الأحياء.. ليس بأهل للحظ من لا تلهمه بصيرته إلى شراء الآجل الكبير بالعاجل اليسير.. إن الحياة وما بعدها لا يستقيمان إلا لمن طلب غاية فوق الحياة.. ومن تمسك بالقوة وحدها أضاعها وتدلى إلى الضعف.. فإذا علمتم هذا فاعلموا أن العدل والحق والواجب والضمير لو كانت مجهولة لوجب اختراعها واتباعها.. لأن العدل فوق المصلحة والحق فوق القوة والواجب فوق الهوى والضمير فوق الشريعة.. صحيح أن القوة عماد الحياة وأساس الحق وسنده وبغية النفوس، لكنها قوتان.. قوة الخراب الطائشة الطاغية الغشوم، وهذه مرفوضة وحق عليها أن تقاوم.. وقوة العمار الحكيمة الغيورة على العدل والحق والواجب، فلا بأس بها.. ومع ذلك يبقى الحق في النهاية هو الملاذ الذي يشرف التسليم به الأقوياء كما يشرف الضعفاء.. فاجعلوه لكم قبلة وإماما..
سارع القرد إلى القفز إلى فرع شجرة لينجو من لطمة نمر لم يعجبه كلامه.. ولكن الجميع سكتوا احترامًا للأسد الذي وقف يقول فيما أراد له العقاد أن يقول: سواء معشر الأحياء صح قول الثعلب أن العبرة بالنجح لا بكيفيته، لو صح قول القرد إن الحق ظافر بالباطل ولو بعد انهزامه.. فإن أولى وآخر الواجبات عندي على الحىّ أن يكون قويا، لأنه لا ظفر لحق أو لباطل إلاّ بالقوة.. عليكم بالقوة لا تنيطوا لكم أملاً بغيرها.. عليكم بقوة الاتحاد إن تخطتكم القوة في الانفراد، وعليكم بالحيلة إن أعيتكم قوة الاتحاد.. أقول لكم جميعا كونوا أقوياء يكن أملكم بأيديكم لا بأيدي الأعداء والأصدقاء..
نقلت المرأة ووراءها الرجل المناظرة كلها إلى قضية علاقات الأزواج بالزوجات.. وحقوق الإناث فيها.. ولكن الرجل ما إن فرغ من الرد على ما ساقته المرأة أمام الجمع، حتى عاد إلى مجرى النقاش الأول ليدلي فيه بدلوه.. لقد بدأ فسلم بصدق الأسد حين قال إن الواجب الأول والأخير على الحي أن يكون قويًا، فهذه حقيقة لا تتغير سواء أكان العدل هو الغالب أم الجور، وسواء أكانت العاقبة للمتقين أم للظالمين.. وسلم الرجل بصدق القرد فيما قاله من أن الأخلاق قوة فوق القوة، وبصدق الثعلب فيما قرره من أن المصالح الخاصة أظهر للحواس وأقرب إلى الأهواء من المصالح العامة.. ولكن ما ينبغى أنْ يُدْرَكَ بعد هذا كله ـ فيما قال الرجل ـ أنه حيثما وُجدَ شيء يسمى أمة فلا بد هناك من شيء يسمى مصلحة الأمة، ولا قيام لمصلحة أمة من الأمم إلا برعاية أبنائها لها.. وإذا كان صحيحًا في نظر الرجل ما قاله من سبقوه، فإن الأولى بالكائنات تحقيقه هو العقيدة.. فهي تقوى الضعيف وتضاعف قوة القوى.. ولا يأس في أمة ما بقى فيها استعداد للعقيدة، على حين لا أمل في أمة قد نضب فيها هذا المعين السماوي مهما غرت ظواهرها..
هل يمكن للكائنات أو يمكن للخلق أن يتفقوا ؟.. الإجابة على هذا السؤال هي مرام وغاية العقاد.. تراه بعين خياله أو بحكمة بصيرته يتابع هذه الدراما الفلسفية التي تخيلها، فيروى كيف مضت كائنات جمع الغاب في خطبها.. بعضها ينطق بهواه، وبعضها بمبادئه، وبعضها بخليط من هذا وذاك.. ولكنهم في مقالاتهم لم يتفقوا على شيء وما كان لهم أن يتفقوا وقد تعددت بهم المصالح والأهواء والمشارب.. هذه هي الحياة فيما كشفه العقاد.. نظرات الأحياء مطبوعة غالبا بأهوائهم ومصالحهم.. بعضهم ينطق بالحق، والبعض ينطق بغرضه وهواه !. ومع ذلك فحكمة الوجود واضحة لمن أراد أن يسبرها بلا هوى.. إن عظمـة قوانيـن الوجـود وحكمتـه لا تدرك بقياسها إلى القوانين التي نتخيلها ونروم إعمالها وفقا لمصالحنا لو كان الأمر بيدنا، ولكن بقياسها إلى الغاية المرجوّة منها لسائر الأحياء.. فإن قانون الوجود ليس قانونا وضع لفرد، وإنما هو قانون الأحياء جميعًا.. فالقانون الذي يوضع لبقاء فرد واحد في عصر واحد غير القانون الذي يوضع لبقاء جميع الأمم في جميع العصور.. وليس أحكم ولا أخلد من نظام يفدى الوجود كله بسعادة واحدٍ منه.. وهذه هي كلمة الحياة.