العقاد والإسلام
العقاد والإسلام
نشر بجريدة الشروق الخميس 10/12/2020
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
أدت شهرة عبقريات العقاد، ومحبة المصريين والعرب بعامة للسِّير والتراجم، إلى التفات الكثيرين عن الدرر الرائعة التي كتبها الأستاذ العقاد عن ديانة الإسلام، وألقى فيها النور على جوانب وفلسفة وأحكام ورؤية الإسلام في كثير من الجوانب.
وما كتبه الأستاذ العقاد في هذا المضمار روائع بحق، كانت ولا تزال محل تقدير وإكبار من العارفين الذين أعطوا هذه الدرر حقها من التقدير والالتفات والعناية.
وظني أن «عبقريات » الأستاذ العقاد، قد ظلمت إسلامياته الأخرى، فقد شدت انتباه الكثيرين عن روائعه الإسلامية إلى امتدت إلى أهم جوانب الديانة الإسلامية التي لا تقل قيمتها إن لم تزد عما كتبه في السّير وفي التراجم التي اشتهرت وسحبت شهرتها والإعجاب بها من الالتفات الواجب لباقي أعماله.
ولا شك أن عبقريات العقاد عن الشخصيات الإسلامية، فرع على كتاباته في الإسلام، فهذه الصفة حاضرة في كل العبقريات الإسلامية التي كتب عنها، حاضرة في الخلفية العامة، وفي بناء الشخصية، وفي استقطار جوانب العظمة والعبقرية فيها، وجميعها مردودة إلى الأصول الإسلامية.
على أن ما أعنيه هنا هو الدراسات الإسلامية الموضوعية، وهي جديرة بأن تجلى وبأن تنال العناية والاهتمام، فقد فات قدرٌ كبيرٌ من الاهتمام الواجب بها ـ بسبب ما حظيت به العبقريات والتراجم من ذيوع، فضلاً عن عشق المصريين والعرب للتراجم وسير الأبطال والأفذاذ والأعلام. حتى لا تكاد تحدث أحدٌ عن الأستاذ العقاد، إلاَّ ويستحضر العبقريات في إكبار وإعجاب، ولا يكاد يذكر إلى جوارها شيئًا من إنتاج الأستاذ العقاد الغزير بعامة، وفي الدراسات الإسلامية الموضوعية بخاصة.
وقد بلغ من شهرة العبقريات، أن جذبت أنظار كُتَّاب كبار على حساب إنتاج الأستاذ العقاد الضخم والضافي في الدراسات والبحوث في جوهر الإسلام، وصرف التفاتهم عن كتب إسلامية فذة لا يجوز لمثقف، ناهيك بمفكر أو شاعر أو كاتب كبير، أن تغيب عنه. ومن كبار كتابنا الذين انصرفوا بالعبقريات عن إسلاميات العقاد بل عن باقي روائعه، الشاعر الكبير الراحل صلاح عبد الصبور. ففي معرض هجومه على الأستاذ العقاد بكتابه : « ماذا يبقى منهم للتاريخ »، انتصافًا من هجومه على الشعر الحر في المجلس الأعلى للثقافة والفنون والآداب، قال الأستاذ صلاح قبل أن يشن هجومه على العبقريات ذاتها ـ إنها « أثمن تراث فكرى جادت به موهبة العقاد »، ويكاد بذلك يختزل كتابات العقاد الإسلامية وغير الإسلامية في هذه العبقريات، إلاَّ أنني لست معنيًّا هنا بعرض ما أورده الصديق صلاح عبد الصبور من نقد للعبقريات، أصاب فيه أم أخطأ، ولكن ما يعنينى هو أنه اعتبر العبقريات « أثمن ما جادت به موهبة العقاد »، وليس هذا صحيحًا، فقد جادت موهبة الأستاذ العقاد بروائع عديدة غير العبقريات، نذكر منها تمثيلاً في الإسلاميات بالذات ـ رائعته : « الله. بحث في نشأة العقيدة الإلهية »، ورائعته :« التفكير فريضة إسلامية »، ورائعته : « مطلع النور »، ورائعته : « الإنسان في القرآن الكريم »، ورائعته : « الفلسفة القرآنية »، ورائعته « حقائق الإسلام وأباطيل خصومه »، إلى غير ذلك من روائع إسلامية كتبها وحلق فيها تحليقًا رفيعًا غير العبقريات التي كاد الأستاذ صلاح يختزل الأستاذ العقاد فيها.
وجدير بالذكر، حتى لا يُظن السوء بالشاعر الكبير صلاح عبد الصبور، أنه برغم أن المقال الذي أشرت إليه كان ضمن جملة مقالات دافعها المعركة التي شبت مع العقاد عن الشعر الحر، والذي أحال الأستاذ العقاد قصائده إلى لجنة النثر، مما أغضب الأستاذ صلاح عبد الصبور والأستاذ عبد المعطي حجازي، وكان وراء هذه المقالات، إلاَّ أنه فور وفاة الأستاذ العقاد في 13 مارس 1964، نفض صلاح عبد الصبور عن نفسه وقلبه غبار المعركة، وكتب مقالاً للأهرام قبل مضى أسبوع على رحيل العقاد، ونشر في 20 مارس، كَتَب في مطلعه يقول « انتهت الرحلة المجيدة إلى غايتها المرصودة، وعاشت نفحة من شمس أسوان ونورها لترقد حيث بدأت رحلتها بعد أن استوت فكرًا أنار البصائر وكشف الظلمات، وملأ الدنيا ومشى في نوره الناس.. رحلة مجيدة استغرقت عشرات السنين لذلك الفتى العالي النفس، المتطلع إلى المعرفة، أفسح لنفسه بيديه، وبيديه وحدها أمضى حياته محاربًا صلبًا، هو فارس الكلمة، وخوّاض بحر المعرفة، وكم جابَه من الأخطار، وشق البحار المتلاطمة الموج، منتقلاً من جزيرة إلى أخرى من جزر المعرفة، حتى أدنت به السفينة إلى شاطئ السكينة فوجد شمس أسوان تنتظره ليعود فيرقد في أحضانها ».
والواقع أن الأستاذ العقاد وكتاباته الإسلامية الموضوعية البحتة، تشف عن قوة عارضته، وعن إلمامه الواسع العريض، وإحاطته الشاملة، بالمبادئ والقيم والأحكام الإسلامية، وعن بصر نافذ وبصيرة شاملة، ورؤية متكاملة، وفهم عميق، وإحاطة بنظرية متكاملة ألمّت بها كتاباته المتنوعة التي تعرضت لكافة جوانب المنظور الإسلامي في رؤية ثاقبة، واستنارة واضحة، فكانت محل تقدير من كبار المفكرين والعلماء المتخصصين، ونشرت وعيًا مستنيرًا لا تزال آثاره تتوهج وينهل منها كل قاصدي المعرفة والإحاطة الصحيحة بالإسلام.
وأعرف بحكم عضويتي في مجمع البحوث الإسلامية لخمسة عشر عامًا، وإلحاقي ضمن ذوى الخبرة بهيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، ومن واقع متابعتي وقراءاتي لمجلة الأزهر وأعدادها القديمة، أن الأستاذ العقاد حظى بتقدير كبير في الأزهر الشريف، وفتحت له صفحات مجلة الأزهر من أول ستينيات القرن الماضي وحتى لاقى ربه في مارس 1964، لنشر مقالاته الإسلامية على صفحاتها، فضلاً عمّا ألقاه عن الإمام الغزالي في قاعة المحاضرات، ونعرف مما قرأناه أنه كان محل تقدير كبير من فضيلة الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت، وقد رُوِىَ أن فضيلة الإمام الأكبر عاده في مرض ألمّ به، فنهض الأستاذ العقاد من رقاده احترامًا لمقام الإمام، إلاَّ أن الشيخ شلتوت سارع إلى تقبيل يده تعبيرًا عن مودته وتقديره له، الأمر الذي أحرج الأستاذ العقاد حرجًا بالغًا وطفق يقول للإمام الأكبر « عفوًا يا مولانا أنت الأحق بذلك »، ولكن الشيخ أجابه في تواضع وإسماح أنه يقبل اليد التي أمسكت بالقلم ونافحت عن الإسلام.
قرأت قصة مرويّة عن فضيلة الشيخ أحمد حسن الباقوري إبان أن كان مديرًا لجامعة الأزهر، وكان من كبار العلماء والدعاة، سئل عن الأستاذ العقاد وكتاباته فقال لسائليه : « الأستاذ العقاد مجاهد صادق بعيد النظر، غيور على الإسلام والمسلمين، غيرة عاملة وليست ثرثارة جامدة كأكثر أنواع الغيرة التي نشهدها في دنيانا الآن، والأستاذ العقاد أزهري بتخرجه على ثقافة الأزهر، وإن لم يكن أزهريّا بتخرجه في الأزهر. فقد كان رحمه الله بهذه الثقافة العربية الإسلامية الأصيلة إلى جانب ثقافته الغربية المتينة ـ خير لسان للعروبة والإسلام بما كتب من كتب ومقالات، وأذاع من أحاديث تدفع عن العربية أوهام المبطلين وعن الإسلام شبهات المغرضين. وقد صدر عن مدرسة الأستاذ العقاد في كتبه ومجالسة فضلاء كثيرون سوف تبرزهم الأيام لتنتفع بهم أمتنا أحسن الانتفاع إن شاء الله… ».
ونحن نعرف أنه فضلاً عن إكبار الإمام الأكبر الشيخ محمود شلتوت وغيره من شيوخ الأزهر للأستاذ العقاد، تقديرًا له، على ما ناضل فيه عن الإسلام، وما كتبه فيه
وعنه بأستاذية واستنارة، نعرف أن مجلة الأزهر عنيت بنشر العديد من مقالاته وبحوثه ودراساته، وفي اجتماع حضرتُه بالأزهر عام 2015 ضمن مجموعة مختارة من هيئة كبار العلماء ومجمع البحوث الإسلامية من ناحية، ومن كبار المثقفين من ناحية أخرى، للنظر في تجديد الخطاب الديني، شهد الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب، بأن الأستاذ عباس محمود العقاد من أكبر من قدموا خدمات جليلة للإسلام، إن لم يكن أكبرهم على الإطلاق .