العقاد سادن الاستنارة في الإسلام
العقاد سادن الاستنارة في الإسلام
نشر بجريدة الشروق الخميس 17/12/2020
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
من أغرب الغرائب، أن يأخذ البعض على الأستاذ العقاد، أو يتهموه، بأن اتجاهه إلى الإسلاميات منذ مطلع أربعينيات القرن الماضي، كان إفلاسًا أو ضربًا من الإفلاس بعد أن قال كل ما عنده من فكر في مجموعاته وإصداراته الأولى حتى أواخر الثلاثينيات، أو أنه كان تخليًّا عن الأدب وعن الدور الفكري، أو إقلاعًا عن التنوير الذي بدأ به وأنفق فيه جل همّه في السنوات الثلاثين الأولى من رحلته .
وقد طالعت بإمعان رحلة الأستاذ العقاد، فوجدت أنه لم يترك رسالته التنويرية حين
اتجه إلى الكتابة في الإسلام وعنه وعن رموزه، وإنما اتجه إلى تنوير ألزم وأوسع مساحة ونطاقًا.. فتعداد المسلمين يجاوز الآن المليار بكثير، وهم موزّعون في الأمة العربية، وفي كثير من الأمم الآسيوية والأفريقية، ووصل إلى كثير من البقاع في أوروبا حتى بلغ تعداده في بعضها ما يجاوز الأربعة والخمسة ملايين، ويصل فيما كان يُعرف بالاتحاد السوفييتي إلى خمسة عشر مليونًا من المسلمين .
ومَنْ دَرَسَ مسيرة أو تاريخ الإسلام، وما كان قد تعرض له من جمود طويل بعد عصر الأئمة المجتهدين، وما يعترضه منذ نهض للإصلاح روادٌ اعترضت مسيرتهم كثيرٌ من العقابيل والصعاب، يدرك أن الأمة الإسلامية ـ وأقصد تعداد المسلمين في العالم ـ قطاع عريض جدًّا، كان ـ ولا يزال ـ يحتاج إلى تنوير وإلى استنارة تتصل بالإسلام الصحيح الذي تلقاه المسلمون وعرفوه في عصر النبوّة والخلفاء الراشدين، حيث دخلت عليه عبر هذه السنين ملصقات ومفاهيم لا تنتمى إلى الإسلام، وقد زادت ظواهر ذلك حتى بتنا نرى أرواحًا تُحصد باسم الإسلام خلافًا للإسلام .
ويمكن لكل متابع موضوعي، أن يرى بوضوح أن عقيدة الإسلام كانت في أشد الحاجة إلى التجلية ليبدو الإسلام لجماعة المسلمين كما أراده الله وأنزله على رسوله عليه الصلاة والسلام، وقد اضطلع الأستاذ الإمام محمد عبده بدورٍ كبير في هذا الإصلاح، وتابعه بعض أعلام التنويريين من الأزهر وقليلون من غير الأزهر، ومع ذلك ظلت عقيدة الإسلام في حاجة ماسة إلى مزيد من التجلية، ولم يكن بين جيل الأستاذ العقاد من غير الأزهريين ـ مَنْ أبدى اهتمامًا ملموسًا بالاضطلاع بهذه المهمة الحيوية المتعلقة بتنوير الملايين من المنتمين إلى الإسلام، بل وربما أتت المحاولة الأولى للدكتور طه حسين بعكس هذا الاتجاه فيما كان قد صـدر عنـه بكتاب « في الشعر الجاهلي »، الذي أثار ضجةً كبرى وتداعياتٍ يعرفها القاصي والداني، أدت إلى عدول الدكتور طه عن كثيرٍ مما ضمّنه هذا الكتاب، وحذف بعض جوانبه وإضافة أخرى، وإصدار الكتاب في طبعةٍ أخرى باسم «في الأدب الجاهلي ».
وفيما عدا كتاب « مرآة الإسلام » ـ فإن ما كتبه الدكتور طه حسين عن الإسلام اقتصر على التاريخ والسيرة، يبدو ذلك في على هامش السيرة، والشيخان، والوعد الحق، والفتنة الكبرى، وهى مع لزومها وأهميتها، إلاَّ أنها كانت تاريخًا ولم تكن تصديًا للعقيدة الإسلامية .
وقد أخرج الدكتور محمد حسين هيكل كتابه الضافي « حياة محمد »، وأتبعه بكتابيه : الصديق أبو بكر، والفاروق عمر، ولم يفسح له العمر لإتمام كتابه عن عثمان بن عفان، وقد بلغ كتابا « حياة محمد » و« الفاروق عمر » ـ درجة هائلة من الذيوع والانتشار، إلاَّ أن العناية بالتاريخ كانت هي الأساس في هذه المؤلفات .
ولم يخرج الأستاذ مصطفي صادق الرافعي في الإسلاميات سوى كتابه : « إعجاز القرآن والبلاغة النبوية »، إلاَّ أنه في البلاغة اللغوية لكل من القرآن والسنة، ودارت جميع فصوله حول البلاغة والبيان والإعجاز اللغوي، أما مجموعة تاريخ آداب العرب، فموضوعها آداب العربية .
ومن ثم فقد كان اتجاه الأستاذ العقاد إلى الإسلاميات، اتجاهًا واجبًا للنهوض برسالة التنوير التي كانت المكتبة الإسلامية في أشد الحاجة إليها .
وعلى تميز عبقريات وتراجم الأستاذ العقاد، إلاّ أن كتابته في عقيدة الإسلام، كانت لازمة لتجلية هذه العقيدة، وإتاحة الفهم المستنير لها، بعدما وقعت أجيال في قبضة الجمود الذي ران لقرون، ولم تكن هذه الكتابات خروجًا أو انسحابًا من التنوير كما ظن البعض، وإنما كانت تنويرًا أوسع مدًى وأشمل نطاقًا وأكثر تأثيرًا في استنارة عقول ملايين من البشر دانوا بالإسلام، وانحرفت ببعضهم السبل عن فهم الإسلام فهمًا صحيحًا .
من كتابات الأستاذ العقاد في عقيدة الإسلام : الله ـ بحث في نشأة العقيدة الإلهية، موكب النور في طوالع البعثة المحمدية، الفلسفة القرآنية، التفكير فريضة إسلامية، الإنسان في القرآن الكريم، المرأة في القرآن الكريم، الديمقراطية في الإسلام، ما يقال عن الإسلام، حقائق الإسلام وأباطيل خصومه، الإسلام في القرن العشرين، شريعة الإسلام والشيوعية، الإسلام والاستعمار، عبقرية الإصلاح والتعليم : الإمام محمد عبده، الإسلام دعوة عالمية، الإسلام والحضارة الإنسانية، أثر العرب في الحضارة الأوروبية، فضلاً عن مئات المقالات المتفرقة في المجلدات الأربعة لليوميات، وفي غيرها من المجموعات .
ومَنْ يدرس هذه الأعمال، يرَ بوضوح أن الأستاذ العقاد لم يترك رسالة التنوير، حين اتجه من أول الأربعينيات إلى الكتابات الإسلامية، بل إنه حمل مشعل النور إلى مئات الملايين إلى أمة المسلمين التي ينتمى إليها، يبسط إليهم الإسلام، ويهز الجمود الذي ران، ويصحح المفاهيم الخاطئة التي تجذرت، ويقود عقول الملايين من البشر إلى مواطن النور والفهم .
وجدير بالذكر أن الأستاذ العقاد حظى بتقدير كبير من الأزهر على كتاباته الإسلامية، وأن من أكبروا الأستاذ العقاد وقدروا فضله في المنافحة عن الإسلام، من أئمة وشيوخ الأزهر، كانوا من المستنيرين الداعين للاستنارة، كالإمام الأكبر محمود شلتوت والشيخ الباقورى والإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب .
والأغرب أن مَن أخذوا على الأستاذ العقاد أن اتجاهه إلى الإسلاميات كان ابتعادًا عن الأدب وعن التنوير، قد قعدوا عن دراسة باقي أعمال الأستاذ العقاد منذ أول أربعينيات القرن الماضي، فحسبوا أنه حين اتجه إلى الإسلاميات، قد ترك ما عداها، ولم يعد معنيًّا لا بالأدب ولا بالفكر العالمي ولا بالتنوير، وهذه بدورها فرية أكثر إغراقًا في البعد عن الحقيقة.
فطوال هذه السنوات من أول أربعينيات القرن الماضي، حتى لاقى ربه في 13 مارس 1964، لم ينقطع الأستاذ العقاد عن الكتابة في الفكر وفي الأدب بعامة، ولم يضع مشعل التنوير قط .
فقد ظل يكتب بانتظام مقالات في هذه الموضوعات المتنوعة، في المجلات الأدبية والفكرية، وفي الصحف اليومية، فكان يكتب بانتظام لمجلة الهلال الشهرية، وفي الدوريات والمجلات الأدبية، وفي صحف الأهرام والأخبار وأخبار اليوم، وانتظم منذ يوليو 1951 حتى قبيل وفاته بأسبوعين، في كتابة يومياته لكل من أخبار اليوم والأخبار، وقد بلغت مئات المقالات في مختلف المجالات الفكرية والأدبية والإنسانية، جُمعت في أربعة مجلدات ضخمة صدر أولها قبل وفاته بنحو عام .
ويبدو لى أن مشكلة المتابعين للأستاذ العقاد ـ أن إنتاجه بلغ من الغزارة والعمق
والتنوع، ما عزّ على البعض متابعته فضلاً عن الإلمام به ودراسته الدراسة الواجبة، وأن قامته كانت أعلى مما استطاع البعض استيعابه لإعطاء هذا المفكر العظيم حقه .
يحسب للأستاذ العقاد أنه كان سادنًا حقيقيًّا للتنوير في الإسلام، وأنه قد ظل طوال حياته رافعًا مشعل التنوير منذ بدأ الكتابة، وحتى لاقى ربه في مارس 1964 .