العدالة الجنائية الذكية.. المعاينة الافتراضية

بقلم الدكتور: أحمد عبد الظاهر – أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة 

 

«المعاينة» هي إحدى إجراءات التحقيق في الدعوى الجنائية. إذ تخول التشريعات الجنائية الإجرائية للقائم بالتحقيق، سواء كان قاضياً للتحقيق أو عضو النيابة العامة أو منتدباً منهما للقيام بهذا الإجراء، أن ينتقل إلى أي مكان ليثبت حالة الأشخاص والأماكن والأشياء المتصلة بالجريمة وكل ما يلزم إثبات حالته (المادتان 90 و199 من قانون الإجراءات الجنائية المصري؛ المادة 71 من قانون الإجراءات الجزائية الاتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة).

 

وللمعاينة دور أساسي في التحقيق الابتدائي، إذ تتيح للمحقق أن يطلع على أدلة الجريمة ويثبتها قبل أن تمتد إليها يد العبث والتشويه. وقد يتيح له ذلك اتخاذ إجراءات فورية لم يكن يتسن له القيام بها إذا لم يكن قد انتقل إلى محل الجريمة، مثل سماع الشهود الحاضرين وإجراء المواجهة بينهم والقبض على المتهم الحاضر.

 

والمعاينة قد تكون وجوبية، إذا كانت الجريمة متلبساً، حيث يجب على مأمور الضبط القضائي وعضو النيابة العامة في هذه الحالة أن ينتقلا فوراً إلى محل الواقعة (المادة 31 من قانون الإجراءات الجنائية المصري؛ المادة 43 من قانون الإجراءات الجزائية الاتحادي لدولة الإمارات العربية المتحدة).

أما في غير حالة التلبس، فإن انتقال القائم بالتحقيق إلى محل الواقعة جوازي له متروك لتقديره.

وهذه الجوازية مستفادة من عبارات نص المادة التسعين من قانون الإجراءات الجنائية المصري، حيث تجعل الانتقال منوطاً بتقدير قاضي التحقيق «كلما رأي ذلك».

وفي ذلك، تقول محكمة النقض المصرية إن «المعاينة من إجراءات التحقيق التي يترك أمر تقدير لزوم القيام بها إلى السلطة التي تباشره» (نقض مصري، 16 يونية سنة 1958م، مجموعة أحكام محكمة النقض، س 9، رقم 171، ص 676).

وقد راعى المشرع في تقرير الصفة الجوازية للمعاينة أن من الجرائم ما لا يقتضي هذا الإجراء، كما هو الشأن في الرشوة والاتفاق الجنائي، ومن الأشياء ما يمكن معاينته دون انتقال، كالمضبوطات التي يتم جلبها إلى المحقق في مقر عمله مثل المحررات المزورة والمخدرات.

 

ويتناول الفقه الجنائي المصري الإجراء الذي نحن بصدده تحت عنوان «الانتقال والمعاينة»، معرفاً إياه بأنه «ذهاب المحقق إلى المكان الذي ارتكبت فيه الجريمة، حيث توجد أثارها وأدلتها وتعني المعاينة مشاهدة وإثبات الحالة في مكان الجريمة، أي مشاهدة وإثبات الآثار المادية التي خلفها ارتكاب الجريمة».

فالمعاينة إذن هي النتيجة التي تتحقق بعد «الانتقال» إلى محل الواقعة، وليس معاينة المضبوطات بعد إحضارها إلى مقر عمل المحقق. والمقصود بالانتقال في هذا الصدد هو انتقال المحقق بنفسه إلى محل الواقعة.

 

وهكذا، فإن المعاينة تتطلب الانتقال إلى محل الواقعة. والانتقال قد يكون واجباً على كل من مأمور الضبط القضائي وعضو النيابة العامة، كما هو الشأن في حالة التلبس.

إلى محل الواقعة، وقد يكون واجباً على القائم بالتحقيق فقط في غير حالة التلبس، سواء كان القائم بالتحقيق هو عضو النيابة العامة أو قاضي التحقيق أو كان أحد مأمور الضبط القضائي منتدباً منها، مع ملاحظة أن المادة 309 من التعليمات العامة للنيابة العامة في مصر توجب «على أعضاء النيابة أن يجروا بأنفسهم معاينة لمكان الحادث في جرائم القتل الخطأ والإصابة بإهمال كلما وجدوا فائدة من وراء ذلك مع إرفاق رسوم تخطيطية يراعى في إعدادها الوضوح والدقة».

وعلى كل حال، فالفرض في المعاينة أن ينتقل الشخص «بنفسه» إلى محل الواقعة، لإجراء المعاينة. ولكن، ومع تطور التكنولوجيا، غدا متصوراً إجراء المعاينة من خلال الكاميرا الافتراضية، ودون حاجة لانتقال الشخص بنفسه.

ومن ثم، يثور التساؤل عما إذا كان جائزاً أن يطلب عضو النيابة العامة من أحد مأموري الضبط القضائي الانتقال إلى محل الواقعة حاملاً معه كاميرا افتراضية، بحيث يستطيع عضو النيابة العامة أن يشارك في المعاينة من خلال الكاميرا الافتراضية.

وإذا كان جائزاً ندب مأمور الضبط القضائي للقيام بهذا الإجراء، أليس من الأفضل أن يشترك معه عضو النيابة العامة في ذلك من خلال الكاميرا الافتراضية. وإذا انتقل مأمور الضبط القضائي بنفسه في حالة التلبس، فهل يكفي بالنسبة لعضو النيابة العامة أن يقوم بالمعاينة من خلال وسيط ذكي، وهو الكاميرا الافتراضية.

كما يثور التساؤل عن مدى جواز القيام بالمعاينة من خلال الكاميرا الافتراضية، ولو كان من انتقل بنفسه إلى محل الواقعة موظف لا يتمتع بصفة الضبطية القضائية.

وبعبارة أخرى، هل الانتقال مقصوداً لذاته، أم يكفي تحقق الغرض منه، وهو إجراء المعاينة، أياً كانت وسيلة ذلك.

 

وفي الإجابة عن هذه التساؤلات، تجدر الإشارة إلى أنه في إمارة أبو ظبي، أصدر مجلس القضاء التعميم رقم (2) لسنة 2019 بشأن الجولة الافتراضية لمعاينة المسكن، موجهاً عناية أعضاء السلطة القضائية إلى تفعيل إمكانية الاستفادة من تقنيات استخدام الكاميرا الخاصة بالجولة الافتراضية لمعاينة المسكن، وكذلك استخدام الآلية ذاتها في إثبات الحالة الخاصة بالعقارات، كلما تطلب الأمر ذلك، وفي إطار الضوابط القانونية الواجبة الاحترام.

ووفقاً لما ورد في ديباجة هذا التعميم، استند مجلس القضاء إلى المادة السابعة والستين من قانون الإثبات في المعاملات المدنية والتجارية الاتحادي، بنصها على أن :

1. للمحكمة بناء على طلب أحد الخصوم أو من تلقاء نفسها أن تقرر الانتقال لمعاينة المتنازع فيه أو تندب لذلك أحد قضاتها وتعين في قرارها تاريخ ومكان المعاينة، وتحرر المحكمة أو القاضي محضراً يبين فيه جميع الأعمال المتعلقة بالمعاينة.

2- وللمحكمة أو لمن تندبه من قضاتها تعيين خبير للاستعانة به في المعاينة، ولها سماع من ترى سماعه من الشهود، وتكون دعوة هؤلاء للحضور بطلب ولو شفوياً من كاتب المحكمة».

كذلك، استند مجلس القضاء إلى المادة الثامنة والستين من قانون الإثبات في المعاملات المدنية والتجارية الاتحادي بشأن دعوى إثبات الحالة، والتي تنص على أنه

1. يجوز لمن يخشى معالم واقعة يحتمل أن تصبح محل نزاع أمام القضاء أن يطلب في مواجهة ذوي الشأن وبالطرق المعتادة من قاضي الأمور المستعجلة الانتقال للمعاينة، وتراعى في هذه الحالة الأحكام السابقة.

2. ويجوز لقاضي الأمور المستعجلة في الحالة سالفة الذكر، أن يندب أحد الخبراء للانتقال والمعاينة وسماع الشهود بغير يمين، وعندئذ يكون على القاضي أن يعين جلسات لسماع ملاحظات الخصوم على تقرير الخبير وأعماله وتتبع القواعد المنصوص عليها في الباب الخاص بالخبرة».

وكما هو واضح من ديباجته، يهدف هذا التعميم إلى الاستفادة من التقنيات والأجهزة الحديثة المتوافرة بدائرة القضاء، ومن بينها استخدام الكاميرا الخاصة بالجولة الافتراضية لمعاينة المسكن، وكذلك استخدام الآلية ذاتها في إثبات الحالة الخاصة بالعقارات.

كذلك، يأتي هذا التعميم تماشياً مع المساعي الهادفة إلى تحويل إمارة أبو ظبي إلى بيئة ذكية، ومواكبة للوسائل التقنية الحديثة وما توفره من إمكانيات تساعد على سرعة الفصل في القضايا وتحقيق فعالية الأداء وتبسيط إجراءات المعاينة من خلال نقل الواقع عبر تقنية ثلاثية الأبعاد.

 

وهكذا، وبموجب هذا التعميم، أقر مجلس القضاء في إمارة أبو ظبي تطبيق مبادرة التصوير التي تتيح للقاضي القيام بجولة افتراضية عبر استخدام تقنية (360) درجة، لمعاينة المسكن المعد للزوجة أو الحاضنة، وكذلك استخدام الآلية ذاتها في إثبات الحالة الخاصة بالعقارات.

وكما هو واضح، فإن هذا التعميم يتعلق بالدعاوى والأقضية المدنية.

ومن ثم، يبقى التساؤل عما إذا كان جائزاً أيضاً اللجوء إلى المعاينة الافتراضية في القضايا الجنائية أم أن للدعاوى الجنائية ذاتية وخصوصية معينة تستوجب إفرادها بأحكام خاصة في هذا الصدد، وبحيث يتعين القيام بالمعاينة شخصياً دون الاستعانة بوسيط الكتروني أو وسيط ذكي.

وفي اعتقادنا أنه لا يوجد ما يمنع من اللجوء إلى المعاينة الافتراضية في الدعاوى الجنائية، لاسيما وأن القضاء الجنائي يقوم على قاعدة حرية القاضي في تكوين عقيدته. والله من وراء القصد…

 

 

زر الذهاب إلى الأعلى