العبادات والمعاملات في الإسلام
العبادات
نشر بجريدة الشروق الخميس 30/12/2021
ـــ
بقلم: الأستاذ/ رجائى عطية
تُعرف الأديان بعباداتها ، حتى لدى من لا يعرفونها بعقائدها . وربما استدلوا على العقائد بالعبادات لأن العبادة فرع من العقيدة .
وقد تكون العبادات « توقيفية » ، كمدة الصيام ، ونظامه ، وعدد الصلوات ومواقيتها وعدد ركعاتها وهيئة كل ركعة وما يتلى أو يقال فيها ، ومقدار الزكاة ، ومناسك الحج ، وهى أوضاع لا تدلى العبادات بأسبابها ، ولا يستقيم الاعتراض عليها لماذا كانت على هذا النحو ـ كعدد ومواقيت الصلاة والركعات ـ ولماذا لم تكن على نحو آخر .
إلاَّ أن هذا لا يعنى أن كل هذه الأوضاع لا تعرف لها أسباب تدعو إليها أو تفسر اتباعها ، ولكنها فى نهاية الأمر أوضاع « توقيفية » لا موجب من العقل للتحكم فيها بالاقتراح أو التعديل .
وفى هذا الإطار ، فإنه لا شك فى وجود مزايا تتفاوت بها العبادات ، وإن لم تكن داخلة فى الفرض المقصود بشعائر كل منها .
والذى لا مراء فيه ، فيما نستخلص من حديث الأستاذ العقاد فى كتابه الضافى حقائق الإسلام ، أن العبادة المثلى يُراد بها تنبيه ضمير الإنسان على الدوام إلى وجوده الروحى الذى ينبغى أن يشغله بمطالب غير مطالب الجسد وشهواته الحيوانية .
والحقيقة الأخرى التى تستهدفها العبادة المثلى ، هى تنبيه ضمير الإنسان إلى وجود خالد باق إلى جانب وجوده الزائل المحدود فى حياته الفردية ، وهو تنبيه ضرورى ولازم إذا أريد للإنسان أن يتفطن إلى هذا الوجود الخالد الباقى ، وأنه وراء معيشته ومعيشة قومه ومعيشة أبناء نوعه ، وبغير هذا التفطن تتوارى فرص الإنسان ورغبته فى الترقى من المرتبة البهيمية إلى مرتبة تعلوها ، وتتضاءل إن لم تنعدم مطالب الواجب وواجب العمر كله ، إزاء رغبة اللحظة أو الساعة .
وعبادات الإسلام بجميع فرائضها تتكفل بالتنبيه الدائم إلى هاتين الحقيقتين أو الغايتين : تنبه ضمير الإنسان إلى وجوده الروحى ، وتنبهه إلى الوجود الخالد الباقى إلى جانب وجوده الزائل المحدود .
والمسلم تحضره الغايتان فى صلاته التى يستقبل بها النهار ويختمه بها ، ويستقبل الليل بها بين يدى ربه ، ولا تزال مصاحبة له تذكره بهاتين الحقيقتين .
والمسلم فى صيامه يذكر حق الروح ، من شرابه وطعامه ، ومن التزامه إزاء مطالب ونزعات الجسد ، ما ينبهه إلى وجوده الروحى ، وإلى ما يتغياه من مثوبة يحققها الوجود الخالد الباقى .
أما الزكاة ، فتتحقق فيها الغايتان بما تذكر به من حصة الجماعة فى مال الفرد الذى يكسبه بكده وكدحه ، واتصال ذلك بالوجود الروحى ، وبوجود أبقى وأخلد من الوجود الزائل المحدود .
أما الحج ، فإنه الفريضة التى تتمثل فيها الأخوة الإنسانية على تباعد الديار واختلاف الشعوب والأجناس ، فى ملتقى يقوم كله على الوجود الروحى ، ويستلهم الوجود الخالــد الباقـى .
وعلى هذه المعانى يتاح للمسلم بالفرائض الإسلامية ، أن يوفق بين عباداته «التوقيفية » وبين غاية العبادة فيها من تذكيره بوجوده الروحى ، وتذكيره بوجود أسمى من وجوده وأبقى .
مزية بلا نظير
على أن عبادات الإسلام جميعها ، تمتاز ـ فيما يقول الأستاذ العقاد ـ بمزية لا نظير لها بين عبادات الأديان ، بكونها تكليفًا لضمير الإنسان وحده ، لا يتوقف على توسيط هيكل ولا على وساطة كهانة ..
يصلى المسلم حيثما يدركه موعد الصلاة ، فأينما تكونوا فثم وجه الله ..
ويصوم ويفطر ، فى داره ، وفى موطن عمله ، وفى أى مكان قيض له أن يكون فيه ..
ويذهب إلى الحج بلا وصاية ، وإلى بيت لا سلطان فيه لأصحاب سدانة أو قوامة ..
وكما لا تتقيد صلاته الفردية بوساطة أو بكهانة ، فإن صلاة الجماعة لا تتقيد بمراسم كهانة ولا بإتاوات محراب ، يؤمه فى هذه الصلاة الجامعة من هو أهل بين الحاضرين
للإمامة .. حتى وإن لم يكن معروفًا للمصلين قبل ذلك .. وقد رأينا ورأى الناس ـ الإمام الأكبر شيخ الأزهر الحالى ويصلى صلاة الجماعة وراء غيره .
هذا دين امتاز بعقائده المثلى ، كما امتاز فى عباداته ، وليس يستقيم فى أى عقل زعم من يزعمون بأنه نسخة مستمدة أو محرفة من دين سابق !
المعاملات
يذكر الأستاذ العقاد فى مؤلفه الرائع , أنه تعمد أن يكتب فى المعاملات بعد أن كتب فى العبادات ، لأن هناك من العلماء المشتغلين بالمقارنة بين الأديان ، من يسلم بسمو العقيدة الدينية للإسلام ولكنه ينتقد أو يعيب شرائعه وأحكام معاملاته ، وأن هناك من هؤلاء أو من المبشرين من قال إن أحكام المعاملات فى الإسلام هى علة تأخر المسلمين وعجزهم عن الأخذ بالأسباب .
وجدير بالذكر أن رسالة الدين ـ أى دين وفى أى حضارة ، لم تكن منعزلة عن رسالة الدولة فى عقائدها ولا فى شرائعها ، فلما قامت رسالة الأنبياء من دعاة الأديان الكتابية ، قامت بمعزل عن الدولة بل معترضة أو ثائرة على الدول من حولها .
ويورد الأستاذ العقاد أن ما تقدم يصدق على الأديان الكتابية الثلاثة : اليهودية ، والمسيحية ، والإسلام . وأنه قد خطر للبعض أن يستبعد المسيحية بقالة إن السيد المسيح عليه السلام قد جاء مؤيدًا لشرائع العهد القديم ، ولم يجئ مبطلاً لها أو معطلاً لأحكامها .. جاء متممًا للناموس ولم يجئ هادمًا له ، وساهم فى سريان هذه الخاطرة أن العالم من حوله عليه السلام كان مكتظًا بالشرائع الدينية والشرائع الدنيوية : للهيكل شرائعه من أراد أن يتبعها فذلك إليه . ومن هنا استطاع السيد المسيح أن يقول للذين أرادوا أن يحرجوه فى مسألة الضرائب : « أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله » وأنه لم يجد من لوازم رسالته أن يثور على شرائع الدولة ولا على شرائع الـدين .
وبرغم ذلك ، حينما جاءه المكابرون من اليهود يريدون إحراجه برجم المرأة التى يتهمونها بالزنى وليصطدم من ثم بسلطان الهيكل ، رَدَّ عليهم كيدهم وقال لهم : « من كان منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر » ، على أن ثورته فى لبابها كانت ثورة على الرياء فى دعوى الأمناء على الشريعة الدينية ، ولم تكن ثورة على الأحكام والنصوص كما وردت فى العهد القديم .
أما اليهودية الديانة الكتابية الأولى ، فمهما يكن الرأى اليوم فى نصوص شرائعها ، فإن التشريع يوم الدعوة إليها كان لازمًا كلزوم الدعوة إلى العقيدة أو الوصايا الأخلاقية . وتناولت الشريعة المنسوبة إلى موسى عليه السلام أمور المعيشة مما صار اليوم من شئون الأطباء ، وتناولت من تشريع الجزاء والعقاب أحكامًا لا يقرها اليوم أحدٌ من المؤمنين بها .
وقد استشهد الأستاذ العقاد ببعض ما جاء بالإصحاح الثالث عشر من سفر اللاويين عن بيان المعاملة الواجبة للمصابين بالبرص ، وكلها قائمة على تقرير نجاسته ، والحكم عليه بتنفيذ أمر الكاهن بالنجاسة وبالضرب على رأسه ، وعزله وحده .. ونحن نعرف الآن أن البرص ليس نجاسة ولا مرضًا معديًا ، وإنما يرجع إلى المادة اللونية فى خلايا البشرة .
وكان الكاهن هو الذى يتولى شئون الطعام والشراب ، ويزكى الطعام المباح ويستولى على نصيب المعبد منه ، وإليه المرجع فى التمييز بين الأطعمة المطهرة والأطعمة النجسة .
وتناولت الشريعة اليهودية معاملات الجزاء والعقاب عن الجرائم ، ومن أمثلتها ـ فيما يستشهد الأستاذ العقاد ـ عقاب الثور النطاح الذى ينطح إنسانًا فيموت ، فالثور يرجم ولا يؤكل
ويستخلص الأستاذ العقاد من ذلك ومما جاء فى غيره من معاملات المعيشة ومعاملات الجزاء ، ومن الشريعة المنسوبة إلى موسى ، أن بنى إسرائيل لم تكن لهم رسالة عالمية إنسانية ، وأن عقائدهم بعد أن رافقتهم فى عزلتهم بين أبناء الحضارات الأولى ، فإنهم عند انتهاء رسالتهم المحدودة ، تفرقوا بين الأمم من غير دولة ولا سيادة على أحد ، ولم يقم لهم سلطان ـ يتولى فرض عقائدهم .