العاجلة والآجلة

فى دوحة الإسلام (108)

فى دوحة الإسلام (108)
نشر بجريدة صوت الأزهر الأربعاء 9/3/2022
ــــ
بقلم نقيب المحامين الأستاذ : رجائى عطية

العاجلة والآجلة

تجرى الأقلام والكلمات ، والحكم والمواعظ ، من مئات السنين ــ على المقابلة بين الدنيا والآخرة ، ووصف الدنيا بأنها الغرورة الفانية ، والآخرة بأنها الحقيقة الباقية .. ونظراً لأن أحبال صبر المتعجلين لا تستطيع انتظار الآخرة ، فتتعجل الدنيا وتقع فى حبائلها ــ تطور الخطاب ليضع الآجلة مقابل العاجلة ، على اعتبار أن الآجلة أقرب من الآخرة ، ويمكن أن ترد فى الدنيا ، فتعوض الصابر الصبور ، المتمسك بالحبل المتين ، عن مكاسب العاجلة التى يمكن أن تكون سراباً قصاراه أن يذهب بالمندفع إليها إلى فوات الاثنتين : العاجلة والآجلة ، أو إلى زوايا النسيان ، أو إلى مزبلة التاريخ !
عالج القرآن الحكيم هذا الداء ، وحذر أشد التحذير من عواقبه ، فجاء بسورة الإسراء : « مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا » (الإسراء 18) .. وفى تحذير إلهى : « وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ » (يونس 11) .. وتكرر فى القرآن المجيد وصف الإنسان بهذه الآفة , فجاء بسورة الإسراء : « وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً » (الإسراء 11) , وفى سورة القيامة : « كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ » ( القيامة 20 , 21 ) .
وعواقب هذا التعجل الضرير , وردت بالعديد من آيات القرآن الحكيم :
« قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ » (الأنعام 11 ) .
« فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ » ( الأنعام 135) .
« وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ » ( الأعراف 86) .
« فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ » (النمل 69 ) .
« وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ » ( الحج 41 ) .
« وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى » ( طه 132 ) .
« وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ » ( القصص 83 ) .
« وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأمُورِ » ( لقمان 22 ) .
على أن الناس لا تسمع أو تسمع ولا تتعظ , وعلى مدار أجيال علق هذا الداء بالآدميين , وفى هذا الزمان ، زماننا ، لم يعد أحد يصبر على طلب العاجلة إيثاراً للآجلة وإن كانت أكرم وأفضل وأعظم وأبقى .. يتساقط الرجال وأشباه الرجال كأوراق الخريف طمعاً وجرياً وراء منصب أو موقع أو ترشيح أو مغنم أو سبوبة ، مع أن ذات هذا الزمان الذى نعيش فيه ، يرينا كل يوم مآل من تسابقوا وأسرفوا على أنفسهم وكرامتهم وعلى وطنهم وعلى الناس ، وماذا صار بهم الحال حين غربت النجومية المصنوعة أو المصطنعة ، وانحسرت الأضواء ، وأحاط بهم السكون المطبق بلا مدد يعوضهم بذكريات تبل الخاطر ، إلاَّ سكاكين الندم والخذلان .. تقطع فى أحشائهم وتبرهن لهم بعد أن فات الأوان ، أن الآجلة ـ لو فهموا وتفطنوا ــ كانت خيرًا لهم وللوطن .. وأبقى !!
لو تأمل المتعجلون المتدافعون إلى العاجلات ، لعرفوا أن الكون كله فى صيرورة دائمة .. الأرض والشمس والقمر والكواكب والأفلاك والمجرات ، جميعاً تدور فى حركة دائبة لا تتوقف .. وهكذا وقائع وظروف الحياة .. لا يبقى ملك فى ملكه ، ولا حاكم فى سلطانه ، ولا ناعم فى موقعه .. ولعرفوا أن التاريخ وإن بدا فى الحاضر أنه لا يكتب ، إلاّ أنه يخط خطوطه يوماً بيوم ولحظة بلحظة ، وأن ما استتر أمره أو تحصن بيومه ، مآله إلى الانكشاف وفقدان الحصانة باكر .. حين تظهر المخطوطات إلى حيز الوجود بعد تغير الظروف أو زوال الحصانات !
لا شىء يساوى ما يؤخذ من استقامة الإنسان وشرفه ، ولا يجد أصحاب العاجلة إلاَّ الخواء حين تنحسر عنهم الهالات ، فيبدون للناس ولأنفسهم بلا شرف ولا كرامة !!
إيثار العاجلة على الآجلة ، نازع يحدث فى الحياة الخاصة كما يحدث فى الحياة العامة .. الفارق أن آثاره فى الحياة العامة أكثر اتساعاً وأعم ضررًا .. ولكنه فى الحالين استسلام لنازع تتراجع أو تنطمر أمامه ـ الرؤية والفطنة والبصيرة ، وتضعف أو تتلاشى إرادة الحق والصواب ، وتحل محلها إرادة النفع وانتهاز الفرص ، والتخلى عن الاتزان والوقار والالتحاف بالمداهنة والرياء والوصولية والنفاق ، والاستسلام للرغاب والشهوات ، وضمور داخل الآدمى بإسكات ثم موات ضميره ، فتتساوى المرئيات ، فلا تميز العدسة بين الكمال والنقص ، ولا بين الجمال والقبح ، ولا بين الحق والباطل .. معيار الرؤية الوحيد يختزل فى ثقب إبرة لا يمر منه إلاّ ما يصادف الهوى ويوافق الأغراض مهما كانت صغـيرة أو بـاطلة !!
يقول الحق عز وجل مسريًّا عن رسول الرحمة المهداة :
« فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ » (القصص 50) .

بشارات

عن أبى هريرة ـ رضى الله تعالى عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال :
« بينما رجل يمشى بطريق .. اشتد عليه الحر فوجد بئرًا .. فنزل فيها فشرب .. ثم خرج فإذا بكلب يلهث يأكل الثرى من العطش .. فقال الرجل : لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذى كان منى .. فنزل البئر فملأ خفه ماء ثم أمسكه بفيه حتى رقى فسقى الكلب ، فشكر الله له فغفر له » .
إن السماء تبارك من امتلأت نفسه رحمة ، ورقَّ لمخلوقات الله قلبه .. ويشكر له المولى تبارك وتعالى ويغفر ما كان منه ..
وقد روى جابر ـ رضى الله عنه ـ عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال :
« من حفر ماءً ـ لم يشرب منه كبد حرى من جنٍّ ولا إنس ولا طائر ، إلاَّ آجره الله يوم القيامة » .
إن القلوب التى تعمر بالإيمان ، تمتلئ رحمة وتشع نورًا .. تخص بهما الضعيف قبل القوى .. والأبكم الأعجم قبل الناطق .. والفقير قبل الغنى .. وما يفعل أحد من خير فإن الله ـ تعالى ـ به محيط عليم .. يكافئه ويثيبه عليه .
فى القرآن الكريم قصة موسى ـ عليه السلام : « إذْ ورد ماء مدين فوجد عليه جماعة كبيرة من الناس يسقون مواشيهم ، ووجد أسفل منهم امرأتين تمنعان أغنامهما أن تردا الماء .. فلما سألهما عن شأنهما وعلم منهما أن أباهما شيخ كبير .. وأنهما لا يسقيان حتى ينصرف الرعاة .. تولى هو سقى أغنامهما .. فكافأه الله تعالى وأثابه » .
فى قصة موسى عليه السلام على ماء مدين ، قال الحق تبارك وتعالى فى كتابه العزيز :
« وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ * فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ * فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ » ( القصص 23 ـ 25 ) صدق الله العظيم
هذه بشارات لمن أُجرى الخير على يديه ، وكان من مفاتيحه .. وشمل بمودته ونجدته رحمته كل الخلائق والكائنات .
روى عن أنس رضى الله عنه ، أى الرحمة المهداة عليه الصلاة والسلام قال :
« ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه طير أو إنسان إلاَّ كان له به صدقة » .
طوبى لهؤلاء الأبرار برضوان الرحمن ورحمته .. بأجره ومثوبته ، وهنيئًا لهم هذه المعانى الباقية ، والسجايا الحميدة ، وثمرات عطائهم التى تدخل السرور على أفئدتهم ، وتملأ صفحتهم بالخيرات والأعمال الباقيات .

ماء التوبة

قال ذو النون المصرى رحمه الله : إن لله عبادًا نصبوا أشجار الخطايا نصبَ روامق القلوب ، وسقوها بماء التوبة ، فأثمرتْ ندمًا وحزنًا ، فجُنُّوا من غير جنون ، وتبلَّدوا من غير عىًّ ولا بَكَم ، وإنهم هم البُلغاء الفصحاء العارفون بالله ورسوله ، ثم شربوا بكأس الصفاء ، فورثوا الصبر على طول البلاء ، ثم تولَّهت قلوبُهم فى الملكوت ، وجالت أفكارهم بين سرايا حجب الجبروت ، واستظلُّوا تحت رُواقِ الندم ، وقرؤوا صحيفة الخطايا ، فأورثوا أنفسهم الجزع حتى وصلوا إلى علوّ الزهد بسلَّم الورع ، فاستعذبوا مرارة الترك للدنيا ، واستلانوا خشونة المضجع ، حتى ظفروا بحبل النجاة ، وعُروة السلامة ، وسرحت أرواحهم فى العلا حتى أناخوا فى رياض النعيم ، وخاضوا فى بحر الحياة ، وردموا خنادق الجزع ، وعبروا جُسور الهوى حتى نزلوا بفِناء العلم ، واستقوا من غدير الحكمة ، وركبوا سفينة الفطنة ، وأقلعوا برياح النجاة فى بحر السلامة حتى وصلوا إلى رياض الراحة ، ومعدن العزَّ والكرامة .
يقول العارفون ..
اتقوا فتنة العابد الجاهل ..
وفتنة العالم الفاجر ..
فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون .
من أقوال العارفين ..
عليك بقلة الكلام يلن قلبُك
وعليك بطول الصمت تملك الورع
ولا تكن طعّانًا ـ تنج من ألسنة الناس
وكن رحيمًا تكن محبّبًا إلى الناس
وارض بما قسم الله لك تكن غنيًّا
وتوكل على الله تكن قويًّا
ولا تنازع أهل الدنيا فى دنياهم ، يحبك الله ، ويحبك أهل الأرض .
الأهواء أولها وآخرها باطل !
ولكل ذنبٍ توبة ، ولكن ترك الذنب أيسر من طلب التوبة ..

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى