الطفل والمسؤولية الجنائية بين الشريعة والقانون الوضعي
بقلم: مجدي محمد عباس
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:-
تكلمنا في المقال السابق، عن الطفل في القانون الوضعي، وذكرنا موقف بعض القوانين العربية، منها مصر والمملكة العربية السعودية، ودولة الكويت ودولة الإمارات العربية، وتبين لنا أنهم متفقون على تحديد سن الحدث بثماني عشرة سنة، وأن الحدث لا يخضع للمسؤولية الجنائية الكاملة، حيث يتم تخفيف العقوبة عليه كما ذكرنا آنفاً.
والآن نتطرق للطفل في الإسلام، باعتباره دين الدولة الرسمي، وذلك بنص المادة الثانية من الدستور المصري لسنة ٢٠١٤.
وسوف نتناول في هذا المقال موضوعين :-
الأول: متى يبلغ الطفل سن المسؤولية الجنائية؟
الثاني: المسؤلية الجنائية للطفل.
الموضوع الأول : متى يبلغ الطفل سن المسؤلية الجنائية؟
قد قسم فقهاء الشريعة الإسلامية عمر الطفل إلى مراحل خمسة، أذكر منها مرحلتين هامتين، وهما لُب الموضوع.
مرحلة البلوغ، أي فترة انتقاله من سن الصغر إلى سن الكبر ومرحلة الرشد، أي اكتمال العقل.
ولكن السؤال هنا ما هو سن البلوغ في الإسلام؟
لابد أن نعلم أن فقهاء الشريعة الإسلامية، قالوا بأن للبلوغ علامات، منها ما هو خاص بالذكر ومنها ما هو خاص بالإنثى.
كالاحتلام ونبات الشعر الخشن على العانة للذكر، والحيض والحمل للمرأة، حتى يصلا إلى سن الخامسة عشر، فإنه يحكم ببلوغهما، وهذا هو مذهب الجمهور من الشافعية والحنابلة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية وهو رواية عن أبي حنيفة -رحم الله الجميع- ودليلهم في ذلك خبر ابن عمر رضي الله عنهما قال: عرضني رسول الله صلى الله عليه وسلم، يوم أحد في القتال وأنا ابن أربع عشرة سنة، فلم يجزني، وعرضني يوم الخندق، وأنا بن خمس عشرة سنة، فأجازني. متفق عليه
قال ابن قدامة في المغني: (وأما السن فإن البلوغ به في الغلام والجارية بخمس عشرة سنة).
وقال الشافعي في الأم: (ليس على الصبي حج حتى يبلغ الغلام الحلم، والجارية المحيض في أي سن بلغاها، أو استكملا خمس عشرة سنة). انتهى
قال في كنز الدقائق: (ويفتى بالبلوغ فيهما -أي الذكر والأنثى- بخمس عشرة سنة، وهذا عند أبي يوسف ومحمد وهو قول الشافعي ورواية عن أبي حنيفة).
وذهب المالكية إلى أن سن البلوغ عند عدم وجود باقي العلامات هو ثمانية عشر عاماً، قال خليل في مختصره: (والصبي لبلوغه بثماني عشرة، أوالحلم، أو الحيض أو الحمل أو الإنبات).
وذهب أبو حنيفة في الرواية الأخرى إلى أن بلوغ الذكر والأنثى عند عدم وجود العلامات، هو ثماني عشرة سنة للغلام وسبع عشرة سنة للجارية، كما ذكره عنه صاحب كنز الدقائق.
والراجح هو القول الأول -كما ذكرنا- وعليه، فإن من بلغ هذا السن عاقلاً يكون مكلفاً مسؤولاً عن كل ما يصدر منه من أقوال وأفعال، والحكمة في ذلك، ذكرها السيوطي في الأشباه والنظائر فقال: (والحكمة في تعليق التكليف بخمس عشرة سنة: أن عندها بلوغ النكاح وهيجان الشهوة والتوقان، وتتسع معها الشهوات في الأكل والتبسط ودواعي ذلك، ويدعوه إلى ارتكاب ما لا ينبغي، ولا يحجزه عن ذلك ويرد النفس عن جماحها إلا رابطة التقوى وتشديد المواثيق عليه والوعيد، وكان ذلك قد كمل عقله واشتد أسره وقوته، فاقتضت الحكمة الإلهية توجه التكليف إليه، لقوة الدواعي الشهوانية، والصوارف العقلية، واحتمال القوة للعقوبات عند المخالفة). {بتصرف يسير من موقع اسلام ويب}.
وبهذا يتضح لنا أن الفقهاء اتفقوا على أن العلامات إن ظهرت في أي سن فقد بلغ الطفل واختلفوا في تحديد سن البلوغ، إن لم تظهر علامات البلوغ على ثلاثة أقوال:-
الأول وهو قول الجمهور، خمسة عشر سنة، وهو الراجح.
والثاني وهو قول المالكية، ثماني عشرة سنة.
والثالث وهو رواية عند الحنفية، يبلغ الذكر بثماني عشرة سنة والأنثى بسبعة عشر سنة.
ثانياً: المسؤلية الجنائية للطفل في الإسلام.
قال ابن قدامة المقدسي: [لا خلاف بين أهل العلم في أنه لا قصاص على صبيٍ ولا مجنونٍ،-ثم قال- والأصل في هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق»، ولأن القصاص عقوبةٌ مغلظةٌ فلم تجب على الصبي وزائل العقل كالحدود، ولأنهم ليس لهم قصدٌ، فهم كالقاتل خطأً] المغني
ومنها ما ذكره البيهقي في سننه: [باب ما روي في عمد الصبي، ثم روى عن عمر رضي الله قوله: عمدُ الصبي وخطؤه سواء، ومثله عن علي رضي الله عنه: عمدُ المجنون والصبي خطأ] سنن البيهقي 8/61.
ومنها ما رواه عبد الرزاق في مصنفه عن الزهري قال: مضت السُنَةُ أن عمد الصبي خطأٌ، وعن قتادة قال: عمدُ الصبي خطأ. وقال سفيان الثوري: لا تقام الحدود إلا على من بلغ الحلم، جاءت به الأحاديث. مصنف عبد الرزاق 9/474. وروى ابن أبي شيبة في باب جناية الصبي العمد والخطأ، عن الحسن أنه قال في الصبي والمجنون: خطؤهما وعمدهما سواء على عاقلتهما، ثم روى عن علي بن ماجدة قال قاتلت غلاماً فجدعت أنفَه، فأُتيَ بي إلى أبي بكرٍ فقاسني فلم يجد فيَّ قصاصاً -لأنه كان صبياً- فجعل على عاقلتي الدية، ثم روى عن إبراهيم النخعي قال: عمد الصبي وخطؤه سواء] مصنف ابن أبي شيبة 5/406. وقال الحافظ ابن عبد البر: [على هذا مذهب مالك وأبي حنيفة وأصحابهما والأوزاعي والليث بن سعد في قتل الصبي عمداً أو خطأً، أنه كله خطأ تحمل منه العاقلة ما تحمل من خطأ الكبير.
وقول مالك إن ذلك على عاقلة الصبي، لأن عمده خطأ، والسنة أن تحمل العاقلة دية الخطأ] الاستذكار 8/51. وقال الأستروشني الحنفي: [عمد الصبي والمجنون خطأ، وفيه الدية على العاقلة، والمعتوه كالمجنون] أحكام الصغار ص 328. وقال الشيخ ابن قدامة المقدسي: [وعمد الصبي والمجنون خطأ تحمله العاقلة. . . ولنا أنه لا يتحقق منهما كمال القصد، فتحمله العاقلة كشبه العمد، ولأنه قتلٌ لا يوجب القصاص، لأجل العذر فأشبه الخطأ وشبه العمد، وبهذا فارق ما ذكروه ويبطل ما ذكروه بشبه العمد] المغني 9/503. وقال ابن الهمام الحنفي: [وعمدُ الصبي والمجنون خطأٌ، وفيه الدية على العاقلة] فتح القدير 23/418. وقال أبو إسحاق الشيرازي: [ولا يجب– القصاص- على صبيٍ ولا مجنونٍ لقوله صلى الله عليه وسلم: «رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق»] المهذب 3/353. والمذكور رواه أبو داود والنسائي والدارمي وابن ماجة وغيرهم، وهو حديث صحيح كما قال العلامة الألباني في إرواء الغليل. وبناءً على ما سبق فإن الصبي إذا قتل أو قلع عيناً فتلزم الدية على عاقلته، ولا يجوز أن يقال إنه صبي غير مكلف، فلا يتحمل تبعة أفعاله، لأنه من المقرر عند العلماء أن لزوم الدية على جنايته وكذا ضمان ما أتلف من مالٍ، إن ذلك من باب خطاب الوضع وليس من باب خطاب التكليف، إذ بينهما فرقٌ واضحٌ، قال الشوكاني [أقول قد تقرر أن جناية الصبي والمجنون مضمونة من مالهما لأن ذلك من أحكام الوضع لا من أحكام التكليف] السيل الجرار 4/422.
((انظر في كتب أصول الفقه عن الفرق بينهما)).
وخلاصة الأمر أن أهلية الإنسان لها أحكام مختلفة في كل مرحلةٍ من المراحل الخمس التي يمر بها، وأن الإنسان في مرحلتي الطفولة والتمييز يؤاخذ مالياً على تصرفاته في حقوق العباد، فيضمن المتلفات ونحوها، وأن الطفل مميزاً كان أو غير مميزٍ إذا قتل شخصاً أو أتلف عضواً كقلع العين، فإنه لا يعاقب على فعله ولو كان متعمداً، وعمد الصبي خطأٌ عند جمهور الفقهاء، لأنه ليس له قصدٌ صحيحٌ، ولكن تجب في فعله الدية كاملة إذا قتل، ونصفُها إذا قلع العين، وتجب الدية على العاقلة في هاتين الحالتين، وعاقلة الإنسان عصبته، وهم أقرباؤه من جهة الأب، وتجب الدية عليهم مقسطة على ثلاث سنوات. (انتهى بتصرف يسير د/حسام الدين عفانة بحث على الانترنت)
وبِناءً على ما تقدم نعلم أن الطفل الذي لم يبلغ سن التكليف، ليس عليه مسؤلية جنائية كاملة في الشرع الحنيف، ولكن تطبق عليه الأحكام الوضعية كما تبين.
والي هنا نتوقف، وفي المقال القادم باذن الله تعالى، نقارن بين القانون الوضعي والشريعة الإسلامية لكي نقف على الفائدة.
ونرد على دستورية قانون الطفل في هذا الباب من عدمه.