الصوفية، بين العقل والمعرفة، والقلب والرياضة
الصوفية، بين العقل والمعرفة، والقلب والرياضة
نشر بجريدة الشروق الخميس 1 / 7 / 2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
الصوفية من حيث الموضوع، نوعان عظيمان: نوع العقل والمعرفة، ونوع القلب والرياضة.
والصوفية من حيث موقعها من الدنيا، كذلك نوعان: نوع يتخطاها وينبذها، ونوع يمشى فيها ويصل منها إلى الله.
وكل هذه المذاهب قد عُرف في الإسلام على أوفاه كما يقول الأستاذ العقاد.
فمن الصوفيين طلاب المعرفة من يُحسب في عِداد الفلاسفة الأفذاذ، ومنهم من لا نظير له كالغزالي ومحيى الدين بن عربي وذى النون المصري.
وهؤلاء الصوفيون العقليون يذهبون بالعقل إلى غاية حدوده، ولا يتهيبون الشكوك والاعتراضات، بل يقولون ـ كما قال الغزالي ـ إن الشك أول مراتب اليقين. ولكنهم متى بلغوا بالعقل غايته ـ ملكتهم نشوة الوجدان فأسلموا أمرهم كله إلى الإيمان.
أما الصوفيون القلبيون فهم يلتمسون المعرفة المباشرة برياضة النفس على قمع الشهوات، وعندهم أن شهوات الإنسان هي الحائل بينه وبين النور، فإذا ملك زمامها تكشف له النور ووصل إلى مرتبة العارفين، وأغناه صفاء النفس عن دراسة الدارسين وبحوث الباحثين.
وكما تقدم، فإن الصوفية من حيث علاقتها بالدنيا نوعان: نوع يرفضها لأنها وهم وغشاوة مزيفة كالطلاء، ونوع آخر يخوض غمار الدنيا ليبتليها ويمتحن نفسه بتجاربها وغوايتها ـ وعنده أنها جميلة لأنها من خلق الله، وكل ما يخلقه ـ سبحانه ـ جميل.
وهذا النوع من الصوفية، هو أقرب أنواعها إلى الإسلام، وليس على المسلم حرج أن يرى للدنيا ظاهرًا خَدَّاعًا، وباطنًا صادقًا أجمل من ظاهرها، وقصة الخضر مع موسى عليهما السلام خير دليل على ذلك.
إلاّ أن الصوفي المسلم يقاوم مطامع الدنيا لأنها تحجبه عن حقائقها العليا.
من المعروف أن انتشار الإسلام في أقطار شاسعة كانت فيها سلفًا ديانات وثنية وغير وثنية، قد أدى إلى تسرب بعض أخلاطه واقترانها بأقوال أناس من المنتسبين إلى الإسلام بما يجوز وبما لا يجوز. إلاَّ أنه يمكن أن يقال بوضوح إن الإسلام ينكر من تلك المذاهب مذهبين منتشرين في الصوفية على عمومها:
الإسلام ينكر مذهب الحلول كما ينكر المذهب القائل بوحدة الوجود.
فلا يقر الإسلام مذهبًا يقول بحلول الله في جسد إنسان، ولا يقر مذهب القائلين بفناء الذات الإنسانية في الذات الإلهية.
ولا يقر الإسلام مذهبًا يقول بوحدة الوجود، أو يقول بأن الله هو مجموعة هذه الموجودات، وأن الكون كله بسمائه وأرضينه ومخلوقاته العلوية والسفلية هو الله.
وعلى ذلك فإنه إذا أجاز المتصوف المسلم معنى من معانى الوحدة الوجودية، فإنها عنده هي وحدة الفضائل الإلهية ووحدة التوحيد.
وقد يلجأ الصوفي المسلم إلى التوفيق بين الظاهر والباطن، أو بين الشريعة والحقيقة، أو بين الأمور الدنيوية والأمور الأخروية، ولكن مقصود العبارات لا يتعدى إثبات أن الشريعة لا بد لها من الحقيقة، وأن الحقيقة لا غناء لها عن الشريعة، وأنهما متضافرتان. ومثل ذلك تقريب الزهد، بأن الزاهد ليس من لا يملك شيئًا، بل من لا يملكه شىء، والمقصود أنه مالك للدنيا غير مملوك لها بحال.
وقد ظل المتصوفة والمنتسبون إلى الطرق الصوفية يبرأون من القول بالحلول ووحدة الوجود وإسقاط التكليف، ويعتزلون من يقول بذلك، ولوحظ ذلك في القانون الذى استشير فيه شيوخهم وصدر في الديار المصرية بلائحة الطرق الصوفية في سنة 1320 هـ /1903 م، ونصت المادة الثانية من بابه الخامس على أن « كل من يقول بالحلول أو الاتحاد أو سقوط التكليف، يطرد من الطرق الصوفية كافة ».
وقد أدى هذا الفارق بين الصوفية الإسلامية والصوفية الدخيلة ـ إلى توهم فريق من المستشرقين أن التصوف كله مستعار من الهند وفارس أو من الأفلاطونية الحديثة، وهو قول يصدق على مذهب الحلول ومذهب وحدة الوجود، ولكنه لا يصدق البتة على مذاهب الصوفية الإسلامية التي تقوم على الحب الإلهي والكشف عن الحقائق من وراء الظواهر، فهذه الصوفية أصيلة في الإسلام، يتعلمها المسلم من كتابه، ويصل إليها ولو لم يتصل قط بفلسفة البراهمة أو فلسفة أفلوطين.
من كتاب الله
ويقرأ المسلم في كتابه: « اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ » ( النور 35) « وَلِلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ اللّهِ » ( البقرة 115 )، « وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ » (ق 16).. فلا يزيد المتصوفة إلا التفسير حين يقولون إن الوجود الحقيقى هو وجود الله وأنه أقرب إلى الإنسان من نفسه لأنه قائم في كل مكان يصل له كل كائن، « وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَـكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ » ( الإسراء 44)، والله يخلق ويأمر فهو فعال مريد وليست إرادته مانعة من الخلق كما يرى الفلاسفة إذ يقولون إن الإرادة القديمة لا ينشأ منها اختيار حديث أو مخلوق حادث… « أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ » (الأعراف 54).
ومما يعلمه المسلم من كتابه أن عقل الإنسان لا يدرك من الله إلا ما يلهمه إياه لأنه تعالى « يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء » (البقرة 255)، ومنه يعلم الخلاف ما بين عالم الظاهر وعالم الباطن أو عالم الحقيقة وعالم الشريعة، لأنه يقرأ مثلاً واضحًا لهذا الخلاف فيما كان من الخضر وموسى عليهما السلام من خلاف.
ويقرأ المسلم تفاصيل ما كان بين الخضر وموسى عليهما السلام من خلاف روته الآيات من الآية 65 حتى الآية 82 من سورة الكهف.
وهذه الآيات البينات يقرأها جميع المسلمين وبينهم ولا شك أناس مطبوعون على التصوف واستخراج الأسرار الخفية والمعانى الروحانية من طوايا الكلمات، فإذا عمد هؤلاء إلى تفسير تلك الآيات وما في معانيها، فليس أيسر عليهم من الوصول إلى لباب التصوف.
لا إسقاط للشريعة أو التكليف
وإذا آمن الصوفي بالكشف عن الحقائق من وراء الظواهر، فإنه لا ينتهي من ذلك إلى إسقاط الشريعة أو إسقاط ما تأمره به من التكليف أو تحظره عليه من المحرمات.
الحقيقة عنده لا تنقض الشريعة بل تتممها وتكشف ما استتر من حكمتها، وتظهر ما خفي من أسباب ظواهرها كما فعل الخضر مع موسى عليهما السلام في كل قضية خفيت على صاحبه.
وليس من الإنصاف أن تُحمل على التصوف أوزار الأدعياء واللصقاء الذين يندسون في صفوفه نفاقًا واحتيالاً وجهلاً وفضولاً، فما من نحلة في القديم والحديث سلمت أو نجت من أوزار اللصقاء.
ولكن التصوف على حقيقته الكاملة هو حرية الضمير في الإيمان بالله على الحب والمعرفة، وبلوغ هذه المرتبة من فضائل الإسلام الذى أطلق ضمير الفرد من عقال السيطرة ويسّر له أن يلوذ بسريرته هذا الملاذ الأمين.