الصبر على العسر من الإيمان    

من تراب الطريق ( 1252 )

بقلم : رجائى عطية نقيب المحامين رئيس اتحاد المحامين العرب

نشر بجريدة المال الأربعاء 2/2/2022

فى تسرية اللطيف الخبير على نبيه المصطفى بما تنزَّل عليه فى سورة الشرح، ذكَّره بأنه قد شرح له صدره، وأزاح عنه الضيق، بعد ما كان يشعر من جهل الحقائق التى تكتنف الكون، وغموض المعالم للسالك إلى رب العالمين، ووضع عنه ما كان على ظهره من حِمل ثقيل، ورفع له ذكره باصطفائه للنبوة وإيتائه الرسالة ليكون هاديًا بها للعالمين إلى يوم الدين.

ثم يأتى الإخبار بأن العُسر لا يمضى بغير يُسر، فيقول جل شأنه مكررًا لتأكيد المعنى:

«فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا» (الشرح 5، 6).

ولو تأمل المؤمن فى هذا الإخبار الربانى، لوعى أن بعد الضيق والنصب والتعب يسرًا وراحة، وأن الظمأ يعقبه ارتواء.. بعد الجوع مهما طال وأضنى شبع، فالله تعالى لا ينسى عباده، وما من دابة على الأرض إلَّا عليه رزقها، والسهد والأرق يعقبهما نوم، وبعد المرض يأتى بفرج الشافى ـ الشفاء والعافية.

يعرف المؤمن أن الله تعالى رحيم بعباده. إنه العزيز الرحيم. وسعت رحمته كل شىء. وأرسل رسوله رحمةً للعالمين، فقال له «وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ» (الأنبياء 107). ووعد سبحانه المؤمنين والمؤمنات القائمين بالطاعات برحمته، وقال عنهم فى كتابـه العزيز: «أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللهُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ» (التوبة 71).. وهو تبارك وتعالى «خير الراحمين».. وأخبر عز وجل بأنه كتب على نفسه الرحمة، وقال لنبيه المصطفى عليه الصلاة والسلام: «فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» (الأنعام 54).

المؤمن يثق ويؤمن برحمة الله، ويثق بأن هذه الرحمة شاملة إياه مهما لاقاه من عُسر وَنَصَب.

والصبر والجلد وانتظار الفرج من الإيمان، يقول اللطيف الخبير:

«فَعَسَى اللهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ» (المائدة 52).

يوم نزلت سورة الشرح بمكة، خرج النبى عليه الصلاة والسلام إلى المسلمين فرحًا مستبشرًا يقول لهم: «أبشروا.. قد أتاكم اليسر. لن يغلب عسر يسرين»، وروى ابن مسعود رضى الله عنه، أن النبى عليه الصلاة والسلام قال: «والذى نفسى بيده لو كان العسر فى جحر لطلبه اليسر حتى يدخل عليه؛ ولن يغلب عسر يسرين»، وفى رواية: «لدخل عليه اليسر فأخرجه».

المؤمن يلملم إرادته وعزمه من براثن اليأس والأشجان، عالمًا أنه عسى أن يكره شيئًا وهو خير له، وواثقًا أن السماء مفتوحة لضراعته. يقول تعالى: «أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ» (النمل 62).. إليه سبحانه يفزع المكروب، ويستغيث المنكوب، وهو أرحم بعبده من الأم بولدها، وقد بشر سبحانه وتعالى الصابرين، وأخبر بأن العاقبة للمتقين.

وفى الحديث القدسى: «إذا ابتليت عبدًا من عبادى مؤمنًا فحمدنى وصبر على ما ابتليته، فإنه يقوم من مضجعه كيوم ولدته أمه من الخطايا». صدق الله ورسوله.

 

نور النبوة

 

جىء بثمامة بن أُثال زعيم أهل اليمامة الذى طالما كاد للإسلام ـ جىء به أسيرًا إلى المدينة، وذهب به ابن مسلمة الأنصارى إلى المسجد النبوى للقاء الرسول الذى سأله ـ عليه الصلاة والسلام. ما عندك يا ثمامة؟

قال ثمامة: عندى يا محمد خير.. إنْ تقتل تقتل ذا دم، وإنْ تنعم تنعم على شاكر، وإنْ كنت تريد المال فسل تُعط منه ما شئت.

سرت همهمات الغضب بالمسجد النبوى من هذا التطاول على الرحمة المهداة.. ولكنه عليه الصلاة والسلام دعاهم إلى الهدوء.. وأطرق برهة، ثم أمر بإطلاق سراح ثمامة والتخلية بينه وبين ما يريد..

فى الصحراء بظاهر المدينة، ثمامة بن أُثال يضرب فى الأرض فرحًا بإطلاق سراحه، وبأنه فى الطريق إلى دياره. بيد أن نفسه جعلت تحادثه متسائلة، كيف تركه محمدٌ هكذا وهو بين يديه.. وبلا فدية ولا شرط.. رغم أنه كاد له وللمسلمين كيدًا، وأمعن فى حربهم! طفق هذا الهاتف الداخلى يزداد، فيقول ثمامة لنفسه متعجبًا.. ولكن هأنذا.. حرٌّ طليق فى الصحراء..

لم يكن إطلاقه خدعة ولا تدبيرًا ولا مناورة.. ترى ما الذى يدفع محمدًا إلى هذه المنَّة؟! إنه لو كان يريد مالًا لأخذ كل ما يريد.. إنه يعلم نسبه وماله.. فما الذى حداه إلى ذلك.. تسرى الخواطر فى نفس ثمامة، حتى تنقدح له الحقيقة.. لا يأتى هذا آحاد الناس.. إنه لا شك نبىٌّ.. (مستدركًا) لقد رأيت نور النبوة يشع من جبينه ومن حديثه..

* * *

بالمسجد النبوى وقد غص بالمسلمين، يدخل ثمامة بن أُثال فيتجه لفوره إلى الرحمة المهداة عليه الصلاة والسلام.. وإذ به بلا مقدمات يقول للنبى بين دهشة الحاضرين: جئت أُسْلم يا رسول الله. أشهد أن لا إله إلَّا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله..

واستأنف يقول: يا رسول الله، والله ما كان على الأرض أبغض إلىَّ منك، وقد أصبح وجهك أحب الوجوه إلىَّ.. والله ما كان على الأرض دين أبغض إلىَّ من دينك، وقد أصبح دينك أحب الدين كله إلىَّ.. آمنت يا رسول الله واهتديت، بينما تتصاعد تكبيرات المسلمين فرحًا بجانحٍ هداه ربُّهُ إلى نور اليقين.

زر الذهاب إلى الأعلى