الشوق إلى المعرفة

الشوق إلى المعرفة

نشر بجريدة أخبار اليوم السبت 13/2/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

يجب أن نلاحظ دائما الفارق بين أشواقنا كآدميين وبين معارفنا.. والأصل أن الأشواق دائما تسبق المعرفة أي معرفة ـ حتى في حالات الإعادة والتكرار، وأن وجود الأشواق يستتبع استمرار زيادة المعرفة، وإذا توقفت الأشواق تراجعت المعرفة أو توقفت، وتوقف معها كل شيء هام في حياة الإنسان !

والأشواق تطلعات لدينا إلى ما هو في اعتقادنا، أفضل وأرحب وأكثر إمتاعًا وإرضاءً. مع حساب أن الإنسان في قياس وتصور نظام ونطاق أشواقه ـ يتصور أن آدميتنا تشمل الكون بكل ما فيه الآن وإلى الأزل والأبد. لهذا نحن لدينا شوق شديد لمعرفة أصل الإنسان وأصل الكون ومصير الإنسان ومصير الكون.. وشوقنا لا ينقطع لمعرفة الخالق عزّ وجل، وكيف خلقنا سبحانه وخلق الكون، وعلاقته بنا وعلاقتنا به، وعلاقة ذلك بالخير والشر والثواب والعقاب والدنيا والآخرة والأرواح والأجساد والملل والنحل والحياة والموت !. هذه الأشواق وما يتعلق بها وما يتفرع عنها تملأ نواحي الوعي والنفس لدى كل آدمي متحضرًا كان أو همجيًّا.. مؤمنًا أو ملحدًا.. عالمًا أو جاهلاً.. كبيرًا أو صغيرًا.. صالحًا أو طالحًا، وتمتد فروعها وأغصانها إلى سائر أجهزتنا النفسية والعاطفية والعقلية، وتتغلغل في القيم والأخلاق والمعتقدات والخبرات والثقافات والحضارات، وفي سائر ما يفعله الآدميون أو يفكرون في فعله من صناعة أو حرفة أو مهنة أو فن أو أدب أو علم .

وتتسلق أشواق الآدمي في طريقها ـ تقدمًا وتخلفًا ـ فوق الآمال والأماني والأحلام والأساطير لإرواء عطشها الذي لا ينقطع، ولتهدئة حاجتها من المعرفة التي لا تهدأ.. ويظن كل جيل من البشر أن ما لديه يكفيه ويقنعه.. ثم يحس أن أشواقه تمتد إلى أكثر مما عنده، أو أن ما في يده فعلاً أعجز عن إشباع مطلوبه وتسكين شكه وقلقه وحيرته.. وأن كل ما حصله أو وجده: إما قد أخفق في معرفة حقيقة ما يشتاقه، وإما قد فشل في الوصول إليه !

لم تقنع أو تشبع أشواق الإنسان إلى المعرفة قط.. ولا يمكن أن تجد ما يقنعها أو يشبعها إلا لأمد.. لأن هذه الأشواق يصحبها دائمًا وأبدًا اشتهاءات لواقع آخر جديد مأمول أرحب وأفضل وأصدق من أي واقع حاضر. بغض النظر عن مبلغ نجاح أو صدق ذلك المأمول.

إن المعرفة اليقينية لكل شيء كان ويكون وسيكون ـ من المستحيلات.. لأن الإنسان جزء فقط من الكون.. وهذا ما لا تسلم به أشواق الآدمي.. لأنه مجرد طاقة تدفع غريزته إلى الفهم والمزيد من الفهم، ولأن المعرفة التقريبية أو الإحصائية وهي كل ما في استطاعتنا من الواقع الذي يعرفه أو يمكــن أن يعــرفه الإنسان ـ لا تكـفي لإطفاء أشواقه.. لأنها معرفة لا تنفي الغيب والمجهول والجائز والمحتمل والمتصور والمتخيل، ولا ينقطع معها وجود المستقبل وانتظاره وتعلق الآمال والمخاوف به. فلن تنقطع أشواق الآدميين للمعرفة والمزيد من المعرفة قط. ولن يُشْفي غليلهم منها أبدًا، ولن يكفوا عن الالتجاء للآمال والأماني والأحلام والتصورات والمخاوف والأوهام قط.

نعود فنقول إن غريزية أشواقنا لنعرف ما لم نعرف وما لا نعرف، هي مجرد طاقة تسوقنا في هذا الاتجاه وتشعرنا بالنقص الذي يشوب واقعنا الحالي أيًّا كان هذا الواقع.. لأنه دائمًا واقع مؤقت مناسب لزمان ومكان يستعد للتغيّر القليل أو الكثير إلى ما يتصور أنه أفضل، وقد يكون غير ذلك عندما يتحقق، لأنه تغيّر مبنى على آمال ووعود وتوقعات قـد لا تصدق ـ وما أكذب آمال الإنسان وأحلاها وما أغنى ذخيرته بالوعود !!

زر الذهاب إلى الأعلى