الشهادة في القرآن الكريم

مقال بقلم: الدكتور أشرف نجيب الدريني

الشهادة في القرآن الكريم تتجاوز كونها مجرد وسيلة إثبات قانونية إلى كونها ركيزة أساسية لتحقيق العدالة وإقامة الحق. فهي ليست مجرد قول يُدلى به أمام القضاء، بل هي التزام أخلاقي ومسؤولية اجتماعية وقانونية تحكمها قيم الصدق والإنصاف والتجرد من الهوى.

فالقرآن الكريم لم يتناول الشهادة بوصفها إجراءً قضائيًا فحسب، بل باعتبارها أمانةً ذات بعد ديني وأخلاقي، حيث يؤكد أن الإدلاء بها بصدق يعزز استقرار المجتمع، بينما يؤدي تحريفها أو كتمانها إلى تفشي الظلم وتقويض العدالة.

الأساس التشريعي للشهادة في القرآن الكريم يقوم على مبدأ وجوب قول الحق، بغض النظر عن العواقب، وهو ما يظهر جليًا في قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ﴾ (البقرة: 283). هذا النص يخرج الشهادة من إطارها القانوني البحت إلى مجال أوسع يتصل بالضمير والمسؤولية الذاتية، حيث يرتبط كتمان الشهادة بالفساد الأخلاقي والقانوني معًا. فالشهادة ليست خيارًا متاحًا للشاهد، بل هي واجبٌ محتمٌ عليه، ومن يمتنع عن الإدلاء بها وهو قادر على ذلك يعد مذنبًا، ليس فقط في نظر القانون، ولكن أيضًا في ميزان القيم الدينية والأخلاقية.

العدل، بوصفه قيمة جوهرية في النظام القانوني الإسلامي، يقتضي أن تكون الشهادة خالصةً للحق، دون تحيز لمصلحة شخصية أو قرابة أو خوف من بطش سلطة. يتجلى هذا في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا﴾ (النساء: 135). في هذا التشريع تتضح فلسفة الشهادة كأداة لتحقيق العدل المطلق، حيث لا يجوز أن تؤثر الاعتبارات الاجتماعية أو الاقتصادية على مضمونها، فالشاهد لا ينبغي أن يجامل غنيًا لسطوته ولا أن يحابي فقيرًا لعاطفته، لأن العدل فوق الاعتبارات الفردية.

الشهادة في المعاملات المالية تحظى باهتمام خاص في القرآن الكريم نظرًا لما تسببه المنازعات المالية من اضطراب في المجتمع إذا لم تكن الحقوق موثقة بشكل واضح. ولهذا، جاء النص القرآني يضع آلية دقيقة لإثبات الحقوق المالية، حيث يقول الله تعالى: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ﴾ (البقرة: 282). هذه الآية تعكس حرص التشريع القرآني على الدقة في الإثبات، خصوصًا في مجال المعاملات التي قد تتطلب استيعابًا دقيقًا للتفاصيل المالية. ويمكن فهم هذا التنظيم ليس باعتباره انتقاصًا من شهادة المرأة، بل في ضوء السياق الاجتماعي الذي ساد آنذاك، حيث لم تكن النساء منخرطات بشكل مباشر في الأنشطة التجارية كما هو الحال في المجتمعات الحديثة، وهو ما يفتح المجال أمام الاجتهاد في فهم هذا الحكم وفقًا للمتغيرات الاجتماعية والاقتصادية.

أما في الجرائم الأخلاقية، فقد شدد القرآن الكريم على ضرورة وجود عدد محدد من الشهود حمايةً للكرامة الإنسانية ومنعًا للتشهير والافتراء. يقول الله تعالى: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِّنكُمْ﴾ (النساء: 15). إن اشتراط أربعة شهود في هذا النوع من القضايا يعكس مبدأً جوهريًا في القانون الجنائي الإسلامي، وهو ضرورة تقديم أدلة قاطعة لا تحتمل الشك، حمايةً لحقوق الأفراد ومنعًا من استغلال الشهادة كأداة لتصفية الحسابات الشخصية أو ترويج الاتهامات الباطلة. هذا التشديد التشريعي يسهم في تحقيق التوازن بين صيانة الأخلاق العامة وضمان عدم المساس بسمعة الأبرياء بغير دليل قاطع.

ولا تقف فلسفة الشهادة في القرآن الكريم عند هذا الحد، بل تتجاوز السياقات القانونية إلى الأبعاد الكونية والأخلاقية، حيث يجعلها القرآن أساسًا للعقيدة نفسها. فيقول الله تعالى: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ﴾ (آل عمران: 18). فالشهادة هنا لا تعني مجرد إخبار عن واقعة، بل هي إعلان للحق والتزام به. وهذا يرسّخ مفهوم الشهادة في الإسلام باعتبارها موقفًا أخلاقيًا يتجاوز نطاق المحاكم والقضايا ليشمل كل مجالات الحياة، حيث يكون الإنسان مطالبًا بأن يكون شاهدًا على الحق في سلوكه وأفعاله، لا بمجرد كلماته.

من زاوية قانونية، نجد أن التشريعات الوضعية قد تأثرت بمفاهيم الشهادة كما وردت في القرآن الكريم، خاصةً فيما يتعلق بمتطلبات الحياد والنزاهة وتجريم شهادة الزور. فالقوانين الحديثة تعاقب بشدة كل من يدلي بشهادة كاذبة، إدراكًا لما يترتب على ذلك من إهدار للحقوق وإجهاض للعدالة. وهذا المبدأ مستمد من النهج القرآني الذي يرفض أي شكل من أشكال التحريف أو الكتمان في الشهادة، بل ويرى في شهادة الزور جريمة أخلاقية تستوجب اللعن والعقاب، حيث يقول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ﴾ (الفرقان: 72).

الشهادة في القرآن الكريم ليست مجرد إجراء قانوني، بل هي منظومة متكاملة من القيم التي تهدف إلى تحقيق العدل وحماية الحقوق، سواء في المجال القضائي أو في الحياة العامة. فهي مسؤولية عظيمة تفرض على الإنسان الالتزام بالحق دون خوف أو تحيز، لأن العدالة لا تقوم إلا على الصدق، وأي انحراف في الشهادة يؤدي إلى اختلال ميزان العدل، وهو ما يجعلها أحد أعمدة استقرار المجتمع وركيزة أساسية في أي نظام قانوني يسعى إلى تحقيق الإنصاف بين الناس. والله من وراء القصد.

زر الذهاب إلى الأعلى