الشرق فنان (8)

من تراب الطريق (1110)

الشرق فنان (8)

نشر بجريدة المال الثلاثاء 1/6/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

ينتقل الدكتور زكى نجيب محمود إلى الهند، فيلاحظ أن وحدة الوجود في كل كلمة ينطق بها الهندي، بل في كل نفسٍ يتنفسه. تراها بادية في دينه، على تعدد الأديان في الهند، وفي أدبه.. فالهندي يمزج نفسه بمحيطه الطبيعي مزجًا، ويكتنه الوجود إلى سره الخ في الدفين، فيؤاخي بين نفسه وبين الحيوان كأنهما أفراد من أسره واحدة هي أسرة الحياة، فليس العالم الخارجي عند الهندي مادة ميتة جامدة تتحرك في فضاء بسرعات معلومة محسوبة، وحسب قوانين مُحكمة مضبوطة، بل العالم عنده دار تعج بالأرواح الكثيرة التي تستكنّ في الصخور وتدب في الحيوان وتسرى في الأشجار وتكمن في مجارى الماء وتعمر الجبال والنجوم، فحتى الثعابين والأفاعي مقدسات لأنها آيات ناطقة بالحياة المقدسة، فأقدم آلهة ذكرتها « أسفار الفيدا » هي قوى الطبيعة وعناصرها، هي السماء والشمس والأرض والنار والضوء والريح والماء ـ جعلوا السماء أبًا والأرض أُمًّا، وكان النبات هو ثمرة التقائهما بواسطة المطر… فإذا لم يكن هذا شعرًا فكيف تكون نظرة الشاعر ؟.

ينقل إلينا الدكتور زكى نجيب محمود نصًّا من أسفاره « يوبانشاد » عبّر به الهندي عن الوحدانية التي يراها تشتمل كافة الكائنات الحيّة في كائن واحد. صوره الهندي تصويرًا فنيًا في هذه العبارة الواردة بأحد أسفار « اليوبانشاد ».

« حقًا إنه لم يكن مسرورًا، فواحد وحده لا يشعر بالسرور، فتطلب ثانيًا، لقد كان حقًا كبير الحجم حتى ليعادل جسمه رجلاً وامرأة تعانقا، ثم شاء لهذه الذات الواحدة أن تنشق نصفين، فنشأ من ثم زوج وزوجة، وعلى ذلك تكون النفس الواحدة كقطعة مبتورة… وهذا الفراغ تملؤه الزوجة، وضاجع زوجته فأنسل البشر، وسألت الزوجة نفسها قائلة: كيف استطاع مضاجعتي بعد أن أخرجني من نفسه ؟ فلأختف، واختفت الزوجة في صورة البقرة، فانقلب هو ثورًا وزاوجها، وكان بازدواجهما أن تولدت الماشية، واتخذت الزوجة لنفسها هيئة الفرس، فاتخذ هو لنفسه هيئة الجواد، وأصبحت هي أتانة فأصبح هو حمارًا، وزاوجها، وولدت لهما ذوات الحافر، وانقلبت عنزة فانقلب لها تيسًا، وانقلبت نعجة فانقلب لها كبشًا، وزاوجها، فولدت لهما المعز والخراف، وهكذا كان الخالق حقًا خالق كل شيء، مهما تنوعت الذكور والإناث، حتى تبلغ في درجات التدرج أسفلها، وقد أدرك هو حقيقة الأمر قائلاً: « حقًا إنى أنا هذا الخلق نفسه، لأنى أخرجته من نفسى »… وهكذا نشأت الخلائق ».

في هذه الفقرة المعبّرة، نلمس بذرة مذهب « وحدة الوجود » و« تناسخ الأرواح ». كل الأشياء وكل الأحياء كائن واحد. حتى الخالق وخلقه، وليس المقصد هنا أن نخوض في هذه المذاهب والمدارس والأفكار، وإنما المقصود إلقاء الضوء على الفكرة الرئيسية التي هي طابع الشرق الأول الأصيل؛ وهي أن ينظر إلى الوجود نظرة الفنان التي تجاوز السطوح الظاهرة إلى الكوامن الخافية، فلئن كانت ظواهر الأشياء تدل على تعددها، إلاَّ أن حقيقتها الخبيئة أنها كائن واحد، وهذه الوحدة للوجود يستطيع الإنسان أن يدركها ببصيرته النافذة.

ما تنفك هذه الفكرة ــ فيما يورد الدكتور زكى نجيب محمود ـ تتكرر عند الهندي في أسفار « يوبانشاد »، تكررًا يتخذ صورًا شتى، ولكنها تجتمع على رأى واحد، هو أن حقائق الأشياء تدرك بلمح الحدس ولا تُرى بالأعين الظاهرة. ويورد نصًّا آخر من « اليوبانشاد » لحوار بين المعلم والتلميذ، يقول له فيه المعلم فيما يقوله: « نعم يا ولدى، فهذا الجوهر الذي هو أدق الجواهر، والذي لا تستطيع العين رؤيته، هو نفسه الجوهر الخ في الدقيق الذي نبتت منه هذه الشجرة العظيمة، فصدقني يا ولدي، إن روح العالم هو هذا الجوهر الذي ليس في دقته وخفائه جوهر سواه ـ هذا هو الحق في ذاته ـ هذا هو الخالق ـ هذا هو أنت يا ولدي.

زر الذهاب إلى الأعلى