الشرق فنان (4)

من تراب الطريق (1106)

الشرق فنان (4)

نشر بجريدة المال الأربعاء 26/5/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

كانت الكتابة الشرقية القديمة ـ وبعضها ما يزال ـ صورًا تصور المسميات تصويرًا مباشرًا، وفرق بعيد في عملية الرمز اللغوي بين أن تستخدم كلمة « إنسان » ــ مثلاً ــ لتدل بها على كائنات معينة لا وجه للشبه بين صورها في الحقيقة وبين صورة هذه الكلمة كما تكتب، يقول الدكتور زكى نجيب محمود إنه فرق بعيد بين هذا الموقف من ناحية، وبين أن ترسم صورة كائن بشرى ذي رأس وجذع وأطراف لتشير بها إلى هذه الكائنات من زاوية أخرى، ففي هذه الحالة الثانية ترتكز في الرمز الكتابي على إدراكك الحسي المباشر لما هو قائم في الوجود الحقيقي الواقع، فليست الكتابة الصينية ــ مثلاً ــ مركبة من أحرف هجاء معينة، لنكون منها أية كلمة شئنًا، بل هي مجموعة من رسوم يبين كل رسم منها ـ بيانًا قريبًا أو بعيدًا ــ طريقة تكوين الشيء نفسه الذي جاءت الكلمة لتسميه، فالعلاقة وثيقة بين الاسم والمسمى، شكلاً وتكوينًا، وهي علاقة الرؤية المباشرة للأشياء، أو إن شئت فقل إنها نقل للخبرة المباشرة بها.

إن كل كلمة في الكتابة الصينية مؤلفة ــ فيما يقول ــ من جَرَّات، كل جرة منها مستقلة بذاتها، لأنها تشير إلى جانب معين من جوانب الشيء الخارجي المدرك؛ ثم تأتى التركيبة اللغوية، سواء كانت كلمة واحدة أو عبارة كاملة، تأتى وقد تآلفت فيها تلك الجرات المستقل بعضها عن بعض تآلفها يجعل منها وحدة واحدة، هي نفسها الوحدة الإدراكية التي يحصل عليها الإنسان المدرك حين يدرك الحقيقة الخارجية؛ ومن هنا امتازت اللغة الصينية في قدرتها على نقل الحقيقة التي يراد التعبير عنها , نقلاً يحافظ لها على فرديتها وتفردها وشتى خصائصها ومميزاتها وتفصيلاتها وظلالها التي تجعل منها حقيقة فردية قائمة بذاتها.

وأنظر إلى الكتابة الهيروغليفية تجدها تصويرًا، ثم أنظر إلى التصوير المصري تجده ضربًا من ضروب الكتابة؛ حتى يصح القول ــ كما قال « دريتون » مدير الآثار المصرية بأن الكتابة المصرية القديمة تسجيل بصري للمسموع، والتصوير المصري القديم تسجيل بصرى للمنظور؛ فقد كان الكاتب يرسم ما يريد أن يقوله، والرسم بطبيعته لصيق العلاقة بالأشياء المحسة المرئية؛ ومن ناحية أخرى قد كان التصوير المصري ــ في رأى « دريتون » أيضًا ضربًا من الكتابة؛ لأن المصور إذا ما أراد تصوير بضعة أشياء يجمعها في لوحته لتعبر له عن معنى معين، كان يختار العناصر التي تكون ذلك المعنى، من ناس وحيوان ونبات وغيرها، ثم يرتبها ترتيبًا ترتبط به أجزاء المعنى المقصود، كأنه كاتب يضع الكلمات جنبًا إلى جنب ليصوغ منها جملة مفيدة، فلا عجب إذن أن نرى التصوير المصري خاليًا من دلائل الانفعال والعاطفة في الشخوص المصورة؛ فقد ترى صورة لسيد يضرب خادمه، أو صورة لعامل يحمل الأثقال، دون أن ترتسم في الصورة الأولى دلائل الغضب على وجه السيد ولا دلائل الألم عند الخادم المضروب، ودون أن ترتسم في الصورة الثانية دلائل التعب في ملامح العامل الذي ينوء بحمله الثقيل؛ كذلك قد ترى صورة للملك رافعًا عصاه على جمع من الأسرى والهدوء والسكينة باديتان على وجهه حتى لكأنه يقدم لهؤلاء الأسرى طاقة من الزهر؛ فالعاطفة والانفعال في التصوير المصري لا يعبر عنهما بتغير في الملامح، بل يعبر عنهما بوضع معين للجسم يصطلح عليه للدلالة على عاطفة معينة أو على انفعال معين؛ فوضع خاص للرجل وهو يتكلم، وآخر للرجل وهو نشوان، وثالث للرجل وهو سأمان أو حزين، وهلم جرا؛ وهذه هي نفسها الحال في الكتابة؛ فلا ينتظر من الكاتب أن يجعل كلماته التصويرية معبرة عن نشوة أو حزن، فهو ــ مثلاً ــ لا يصور الكلمة الدالة على خوف تصويرًا يجعلها مرتعشة الأحرف؛ ويكفي أن ترص الكلمات رصًا مستقرًا هادئًا، بحيث تثير في قارئها ما يراد له من فرح وحزن وسأم وخوف؛ وحسبنا ــ فيما يقول ــ هذا التشابه الشديد عند المصريين القدماء بين طريقتهم في الكتابة وطريقتهم في التصوير، لنعلم أن النظرة إلى العالم الخارجي هي في صميمها نظرة الفنان.

ومع أن الكتابة العربية مؤلفة من أحرف الأبجدية التي نفكها ونركبها في مختلف الكلمات والجمل، وليست هي كالهيروغليفية صورا فعلية تمثل الأشياء بأعيانها.

إلاَّ أن الدكتور زكى نجيب محمود يلاحظ بحق، أن الفرق الجوهري بين نظرة الفنان ونظرة العالم، أن نظرة الفنان تساير جزئيات الوجود العقلي، بينما نظرة العالم تبدأ بتلك الجزئيات، ولكنها تجاوزها إلى معان مجردة تتمثل في الصيغ الرياضية التي تصاغ بها القوانين العلمية، فالكلمة الواحدة في الكتابة العربية يتغير جرسُها تبعًا لما إذا كانت مرفوعة أو منصوبة أو مجرورة أو ساكنة أو منوّنة، وخذ مثلاً كلمة « رجل » يتغير جرسها بين رجلٌ، ورجلاً، ورجلٍ، ورجلُ، ورجلَ، ورجلاً، ورجلْ وهذا أحد الأسباب التي اعتمد عليها الأستاذ العقاد في وصفه اللغة العربية بأنها لغة شاعره، لأنها بتعدد حركتها وخصوبة مفرداتها، تُعين الشاعر على نظم الشعر بموازينه وقوافيه.

لذلك تتبدى روعة لغات الشرق حين يكون الموضوع شعرًا أو ما هو قريب الصلة بالشعر؛ بينما دقة لغات الغرب تظهر حين يكون الموضوع علمًا أو ما هو قريب من العلم.

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى