الشرق فنان (2)

من تراب الطريق (1104)

الشرق فنان (2)

نشر بجريدة المال الاثنين 24/5/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

خذ مثلاً لتتعرف الفرق بين النظرة العلمية، والنظرة الفنية: عالم فلكي، وفنان، وتمثلهما ينظران إلى السماء ونجومها في ليلة صافية. لا شك أن رؤيتها البصرية واحدة، ولكنك تسمع الفلكي يقول: لا تحسب هذا النجم اللامع الذي تراه الآن، قائمًا في المكان الذي تراه أنت فيه، بل إن ما تراه مجرد « حزمة ضوئية » لنجم غادر مكانه هذا منذ زمن طويل، ولكن هذه الحزمة الضوئية لا تصل إلى أعيننا إلاَّ بعد أن تقطع مسافة من مكانها إلينا يستغرق قطعها عديدًا من الأعوام، حتى وصلتنا اللمعة الأخيرة، ولكن عندما تصلنا يكون النجم قد غادر موقعه هذا من سنين.

أما الفنان، فلا شأن له بشيء من هذا كله، فالنجم عنده هو هذا الكائن الحاضر المشهود الذي يراه، ويملأ منه عينيه، وينبض له شعوره، وتتحرك عواطفه، وتهتز له جوانحه.

في النظرة العلمية التي التزمها الفلكي تُرد الظاهرة إلى قانونها الذي يطويها مع ما يطوى أشباهها.

أما نظرة الفنان، فهي عنده النظرة الجمالية، ولا يرد الظاهرة إلى سواها. فهي عنده المبدأ والمنتهي، وعليها تتشكل إبداعات الرسامين والشعراء والأدباء والمحبين.

لذلك كانت النظرة العلمية دائما بحاجة إلى تعليل.

أما النظرة الفنية فليست بحاجة إلى تعليل.

وهذا أيضًا هو الفارق بين النافع، والجميل.

فمع التسليم بأن النفع والجمال قد يجتمعان، إلاّ أن الفروق تتضح في قياس وتبرير النفع، بينما لا يحتاج الجمال إلى البحث له عن أغراض.

جمال الشيء الجميل؛ قوامه دائمًا نظام داخلي في الشيء تتسق به أجزاؤه وعناصره؛ جمال قصيدة الشعر نسق باطني ينتظم أطرافها ودقائقها، فهي ليست مجرد أبيات تلو أبيات إلاّ إذا كانت منظومة في اتساق تتسق به أبياتها وإيقاعها.. وكذلك في الرسم والنحت والموسيقى.

القوانين العلمية فيها ولا شك نسق ونظام، مداره استدلال النتيجة مـن مقدماتها.. وفي هذا يختلف النسق والنظام بين كل من كينونة الفن والجمال، وكينونة العلــم وقوانينه.

ومن المؤكد أن هذا الفارق هو الذي يمنع ترجمة العمل الجمالي، فمهما أوتي المترجم من إلمام بلغتي الترجمة، فإنه لن يستطيع أن ينتقل الجمال من النص المترجم، إلى ترجمته.. تتأبى اللوح والتماثيل على النقل وتتأبى الأشعار على الترجمة، فإذا أجريت فإنها في غالب الظن تنقل المعنى، ولكن ليس بمستطاع أن تنقل الشحنة الفنية الجمالية.

ولهذا. صار من المسلّمات استحالة ترجمة القرآن، إلاَّ أن تكون ترجمة لمعانيه. فالمعمار الموسيقى والبلاغة، من المحال على أي مترجم أن ينقلها بذات الجمال إلى الترجمة.. مهما كانت عبقرية المترجم، وإلمامه باللغتين.

نعم الله على الإنسان لا تُعد ولا تُحصى، حسبنا قوله سبحانه وتعالى فيها: « وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً » ( الإسراء 70 ). وقد أراد الله للإنسان أن تكون له النظرتان معًا: فبالنظرة العلمية يدرك كنه الأشياء وينتفع بها، وبالنظرة الفنية ينعم بما في الكون من جمال ومحاسن وإبداع.

وبديهي أن تتفاوت نسبة هذه وتلك لدى كل فرد، وهذه سنة الخلق الذي أرادنا أن نكون مختلفين.

على أن الاختلافات الفردية، لا تمنع من استخلاص الطابع العام لإقليم أو لزمن أو لمجموعة من الناس.

وهنا يتضح ما يريده الدكتور زكى نجيب محمود؛ أن يبين أنه تغلب على الشرق بعامة « نظرة الفنان » ولا يعنى هذا ـ بداهة ـ أنه خالٍ من النظرة العلمية، وأن يغلب على الغرب النظرة العلمية، ولا يعنى هذا ـ بداهة ـ خلو الغرب من النظرة الفنية.

ومع هذا يقر بأن هذا التقسيم ينطوي على مجازفة خطيرة. فالشرق ليس بلدًا واحدًا، ولا هو بقعة واحدة، وإنما هو عالم واسع، بعيد الأطراف والأرجاء، تتخلله وتفصل بين بقعه بحار ومحيطات وأنهار وصحاري ووديان، وليس المناخ فيها كلها متشابه، ولا الناس من طراز واحد. فلا يوجد تشابه ظاهر بين أهل الشرق الأوسط، وأهل الهند، وأهل الصين، وأهل اليابان. ومن ثم فإن ما يسمى إجمالاً « بالمدنية الشرقية » فيه كثير من المجاز، فهذه المدنية بناءٌ مركب كثير التفصيلات متشعب الأصـول والفروع معقد العناصر. فكيف إذن يستقيم هذا التعميم؟

يقول الواقع إنه برغم هذا الاختلاف البعيد، فإن للشرق ـ بلا شك ـ لونًا ثقافيّا واحدًا تتحد فيه كل أقطاره. وهو الروحانية.

هذه الروحانية تبدو للمتأمل ملحوظة في الدين، وملحوظة أيضًا في الفن. فكيف كان ذلك؟

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى