الشرق الفنان (19)
من تراب الطريق (1121)
الشرق الفنان (19)
نشر بجريدة المال الأربعاء 16/6/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
الخلاصة التي يحرص الدكتور زكى نجيب محمود على إبدائها قبل أن يستأنف بحثه أو غوصه، أن هنالك طرفين من وجهات النظر.
طرف يتمثل في الشرق الأقصى، مؤداه أن ينظر الإنسان إلى الوجود نظرة حدسية مباشرةً، فإذا الإنسان جزء من الكون العظيم، وهذه هي نظرة الفنان الخالص.
وطرف آخر يتمثل في الغرب، مؤداه أن ينظر الإنسان إلى الوجود نظرة عقلية تحلل وتقارن وتستدل، وهذه نظرة العلم الخالص.
وبين الطرفين وسط يجمع بين الطابعين؛ وهو الشرق الأوسط، الذي يدل تاريخ ثقافته على مزج بين إيمان البصيرة ومشاهدة البصر. بين خفقة القلب وتحليل العقل. بين الدين والعلم. بين الفن والعمل.
ويأخذ الدكتور زكى نجيب محمود على كثير من كتاب الغرب أنه وقد عرضوا للفوارق التي تميز الغربي عن الشرقي في تفكيره ووجهة نظره إلى العالم من حوله، لا يلتفتون إلى الفارق بين الشرق الأقصى والشرق الأوسط من جهة، والفارق بين الشرق الأوسط والغرب من جهة أخرى ( وهو ما تبناه الدكتور طه حسين في كتابه مستقبل الثقافة في مصر ــ مؤكدًا أن مصر تنتمى إلى الشرق الأوسط وحوض المتوسط، أكثر مما تنتمى إلى الشرق البعيد أو الشرق الأقصى في الهند والصين واليابان مثلاً ).
الفارق الأول ـ فيما يرى ـ هو أن الشرقين الأقصى والأوسط يتشابهان في النظرة الحدسية ــ نظرة الفنان ــ ثم يختلفان: الشرق الأوسط يضيف إليها نظرة علمية عملية.
والفارق الثاني بين الشرق الأوسط والغرب، هو في أنهما يتشابهان في النظرة العقلية العلمية العملية، ثم يختلفان في أن الشرق الأوسط يضيف إلى تلك النظرة نظرة حدسية.
ومن هنا تستطيع أن ترى وجه الخطأ في آراء بعض المستشرقين الذين تصدوا لتحليل العقلية العربية ووصفها، ومرجع الخطأ إلى أنهم نظروا إلى جانب واحد إلى عقلية هى بطبيعتها ذات جانبين.
يورد الدكتور زكى نجيب محمود أن « ليون جوتييه »، يقول في كتابه « تمهيد لدراسة الفلسفة الإسلامية » ص 66:
« يختلف الآريون عن الساميين اختلافًا أصيلاً في المناشط البشرية كافة، من أدنى الأمور كالطعام والثياب إلى أعلاها كالنظم الاجتماعية والسياسية، فالعقل « السامي »… يترك الأشياء مفرقة ومفككة كما يصادفها، وكل ما يفعله إزاءها هو أن يقفز قفزات مباغتة من شيء إلى شيء بغير ربط ينسقها معًا، بما يراه فيها من تدرج ؛ على حين أن العقل الآرى يركب الأشياء المختلفة تركيبًا يعتمد على روابط متدرجة تجعلها وثيقة العرى بعضها مع بعض، حتى ليصبح الانتقال من شيء إلى شيء أمرًا طبيعيًا.
والانتقال المفاجئ من جزئية واحدى إلى أخرى، هو هو بعينه ما يطبع نظرة الفنان إلى ما حوله من أشياء. ولا مندوحة للفنان لدى الوقوف أمام زهرة مثلاً ــ لا مندوحة له في تلك اللحظة الفنية من الفناء في جزئية واحدة هى التي يراها ويتخذها مدار نتاجه الفني، ويغوص داخل هذه الجزئية ليبرز حقيقتها الباطنة إبرازًا يبين لصاحب النظرة النقدية النافذة.
« فإذا كان العقل « السامىُّ » ــ كما يقول جوتييه ــ يقفز من جزئية إلى جزئية، فذلك لأنه فنان، ووجه الخطأ عند « جوتييه » هو أنه حصر النظر في هذا الجانب وحده بحيث فاته الجانب الآخر من عقلية الشرق الأوسط، وهو الجانب العقلي العلمي الذي ظهر في مناهج فلاسفتهم وعلمائهم كما سنذكر في إيجاز بعد قليل.
وكذلك يقول دنكان ماكدونالد في كتابه « تطور الفقه ونظرية الحكم عند المسلمين » ( ص 125 ـ 126 ): « ليست الحياة بأسرها في نظر الساميين إلاَّ موكبًا طويلاً يبدأ من المحيط العظيم لينتهي إلى المحيط العظيم مرة أخرى… فليس في العالم من حق سوى الله، فمنه نشأنا وإليه نعود، وما على الإنسان إلا أن يخشى الله ويعبده، أما هذه الدنيا فخادعة، تسخر ممن يركنون إليها. تلك هي النغمة السائدة في الفكر الإسلامي كله، وهى الإيمان الذي يرتد إليه السامي آخر الأمر دائمًا ».
هذا فيما يرى الدكتور زكى نجيب محمود هو الصواب كل الصواب بالنسبة للشرق الأقصى، ولكنه صواب بعض الصواب بالنسبة إلى الشرق الأوسط، وليس صحيحًا كل الصحة ما قاله الشهرستانى في الملك والبخل من أن كبار الأمم أربعة: العرب، والعجم، والروم، والهند، وما أبداه عن التقارب في بعض الخواص أو الطبائع، كقوله مثلا إن العرب والهند يتقاربان على مذهب واحد، وكذلك الروم والعجم ــ ذلك أن الشهرستانى وأن أصاب وضع يده على محيز أصيل يميز بين وجهتين للنظر ؛ إحداهما تمس في الأشياء جوهرها الباطن، وأخرى تنظر إليها من صفاتها الظاهرة كيفًا وكمًّا. ولكن فاته ــ فيما يرى ــ إمكان التقاء النظريتين في أمة واحدة، وهو ما ينعكس على التقسيم الذي ارتآه.