الشرق الفنان (18)

من تراب الطريق (1120)

الشرق الفنان (18)

نشر بجريدة المال الثلاثاء 15/6/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

إن من يتحرر من ربقة المادة، فيما يستطرد أفلوطين، يخطو أول خطوة نحو التحرر من سلطان الجسم المادي، بما فيه من حواس، ومما لهذه الحواس من رغاب أو شهوات. بيد أن هذه الخطوة الأولى لا تحقق إلاَّ أدنى مراتب الفضيلة والخير، وتليها خطوة ثانية هي أن يسمو الإنسان ويفكر ويتأمل، ثم خطوة ثالثة أن يسمو بنفسه فوق هذه المرتبة محاولاً الوصول إلى العلم اللدني أو العلم الذاتي المباشر؛ وما هذه الخطوات المتدرجة إلاَّ إعداد للدرجة الأخيرة. وهي فيما يضيف أفلوطين أن يذوب في الله بالهيام والذهول والغيبوبة والوجد؛ عندئذ تتحد النفس بالله الواحد، ويفنى في ذاته فناءً كاملاً.

ونحن نعرف أن هذه الحالة هي التي عبر عنها « الحلاج » وأسلست إلى مأساته ـ حين قال:

أنا من أهوى ومن أهوى أنا نحن روحان حللنا بدنا

فإذا أبصرتني أبصرتــه وإذا أبصرته أبصرتنا

*    *    *

بداهة لا يسوق الدكتور زكى نجيب محمود ما اعتنقه « أفلوطين » اعتناقًا أو تأييدًا لفكرة الحلول.

ويتساءل. هل بنا حاجة إلى القول بأن الشرق الأوسط في روحانياته منذ أقدم عصور، هو الذي اختاره الله ليكون مهبط وحيه إلى موسى وعيسى ومحمد عليهم السلام.

ورغم عرف كتاب الغرب في إطلاق مسمى الحضارة المسيحية أو اليهودية آنًا آخر على الحضارة الغربية، فإن ذلك لا ينفي أن الديانتين جاءتا من مهدهما ومهبط وحيهما ـ جاءتا من الشرق الأوسط، وأقل ما يقال في هذا الشأن أن من خصائص الديانتين أن تطبعا العقل بطابع معين في الفكر والعمل؛ ويستحيل أن يكون هذا الطابع غريبًا على أهل الشرق الأوسط الذين تلقوا الديانتين وآمنوا بهما قبل أن ينقلاهما إلى بلاد الغرب، وهو ما حدث فيما بعد حينما نزل الإسلام وانتشر من الجزيرة العربية والشرق الأوسط، إلى ما نراه اليوم في البلاد الغربية، والتي بلغ عدد المسلمين في بعضها عددًا ضخمًا، فالاتحاد السوفييتي جاوز فيه المسلمون خمسة عشر مليونًا، وفرنسا التي جاوز عددهم فيها خمسة ملايين، وألمانيا التي اقتربوا من هذا العدد.

لقد كانت الإسكندرية ـ فيما يقول الدكتور زكى نجيب محمود ـ كانت حامية المسيحية في القرون الأولى، وفيها بدأ اللاهوت المسيحي ينسق لأول مرة بين العقيدة من جهة والعقل الفلسفي من جهة أخرى، الأمر الذي رسم الطريق أمام أوروبا المسيحية بعد ذلك طوال القرون الوسطى.

وذلك دليل فيما يرى ـ على اجتماع أمرين لأهل تلك البلاد: القلب والعقل معًا. الإيمان والعلم. اللمسة المباشرة ومعها التحليل العقلي. ويستشهد الدكتور زكى نجيب محمود على رأيه بأننا نذكر من آباء الكنيسة الإسكندريين رجلاً واحدًا حسبه دليلاً على ما يقول. ذلك هو « أوريجن » ( 185 ـ 254 ) وهو معاصر لأفلوطين، وقد بذل « أوريجن » جهدًا ملموسًا في تثبيت العقيدة المسيحية عندما كانت لا تزال تتعرض لهجمات المنكرين، ومن أهم ما قاله وأيده بالأدلة أن الفلسفة اليونانية القائمة على العقل المنطقي الصرف والأناجيل القائمة على الإلهام والوحى الصرف، إنما يتطابقان ولا يتعارضان.

ولا يخفي ـ فيما يضيف ـ أن هذا هو الأساس الذي قامت عليه فلسفة العصور الوسطى كلها.. في الشرق الأوسط الإسلامي، وفي الغرب المسيحي على السواء.

على أن « أوريجن » حين قال ذلك عن الأناجيل، لم يفته أن يؤكد بأن صحة ما قد ورد فيها ليس مترتبًا على صدق الفلسفة اليونانية، بل « الإنجيل يحمل برهان نفسه بنفسه، وهو أقدس من أي برهان أقامه فن الجدل اليوناني » ـ وهكذا يتمثل في الرجل الواحد إيمانه بعقيدته واهتداؤه بعقله في آن واحد، وذلك هو روح الشرق الأوسط في شتى عصوره.

زر الذهاب إلى الأعلى