الشرق الفنان (13)
من تراب الطريق (1115)
الشرق الفنان (13)
نشر بجريدة المال الثلاثاء 8/6/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
دعونا نتأهب لندخل معًا في معية الدكتور زكى نجيب محمود إلى العميق، هذه القامة السامقة التي ظللنا ننهل من عميق فكرها السنين الطوال. وقد يتمنى معي القارئ أن تعاد طباعة أعماله، وأعمال يحيى حقي، وأعمال لويس عوض. فهذه شخصيات ليس من السهل أن تتكرر. وما هذه السطور إلاَّ اجتهادًا متواضع للتذكير بفكر الدكتور زكى نجيب محمود، وإنعاش شهية الحاضر للإقبال على كتاباته النفيسة.
نراه وقد أشرف على الفصل الثامن من كتابه الصغير الحجم الكبير القيمة.. نراه يسعى بنا لنكتشف معه روح الشرق وسرّه. إنهما في إدراك الجوهر الكوني الواحـد المتصل الذي لا تجزئة فيه ولا تباين، ولكن أين عسانا نوجه النظر لنستكشف أو نرى هذا الجوهر. من المؤكد أننا نستطيع تلمسه في كل ما حفل به هذا الكون العظيم. هل نتلمس هذا الجوهر في هذه الزهرة، أو في هذا الجبل، أو في هذا العصفور، أو في تلك الفراشة؟
ظنه وظني معه أن من وهبه الله روح الفنان الأصيل، سوف ينجح إذا ما ركز انتباهه في جزئية واحدة من هذه الأشياء العديدة جدًا ليستشف منها ـ من هذه الجزئية الواحدة ـ روح الكون الواحد، إذا ما تأملها مَليًّا.
روح الفن في حقيقتها ليست سوى قدرة الفنان على إدراك الحقيقة الكبرى من خلال الجزئيات التي يقع عليها بحسه. فالفن مزيج مركب مما هو جزئي ظاهر للعين بادٍ للحواس، ومما هو خبيء وخفي مستعصٍ على إدراك الحواس ـ في استلهام هذا الشق تكمن القدرة الحقيقية أو موهبة الفنان. فالفنان شاعرًا كان أو رسامًا أو نحاتًا لا يسعى بعمله إلى محاكاة الأشياء، وإلاَّ لأغنت عن عمله ـ آلة التصوير. إنما هو يمزج بين خصائص الشيء المميزة الفريدة من جهة، وبين ما يوحى له من المعاني التي تكمن وراء ما هو ظاهر للحس. لا سدود ولا حواجز ولا حدود تقف دون الفنان الذي يستطيع أن يدرك بوجدانه ما وراء الزهرة المصورة. عندئذ سيظل غارقًا في بحر الوجدان حتى يدرك في النهاية اللامتناهي واللامحدود.. إلى الحق الواحد الذي هو جوهر الوجود.
لا يتحقق هذا الكشف لمن يحصر نفسه في الآلات والمعـدات والمناظيـر، فهـو لا يجاوز الظواهر المحكومة بالقياسات والقواعد مخافة أن يشط عن العلم فيضرب في الغيب المجهول.
يتخفف من هذه القيود من ينظر إلى الطبيعة نظرة المتصوف الفنان، لا يستغرقه الظاهر أو يحول بينه وبين تلمس واكتناه الباطن، فيجاوز عالم الشهادة إلى عالم الغيب.
ظني أنه لا نقطة التقاء بين من يتلمس الظواهر المحسة ليستخرج قوانينها، وبين من يتلمس ما وراء تلك الظواهر المرئية.
وهذا الانفراج أو التفاوت بين النظرتين، هو فيما يقول الدكتور زكى نجيب محمود ما بدا ملموسًا بين الشرق والغرب على مدى قرنين أو ثلاثة في التاريخ الحديث.
سر الشرق وروحه، أو سر الفن وروحه، هو في ذلك الغوص وراء الجزئيات العابرة لاكتناه المعنى الكامن وراء الظاهر،
ليس الخلود وليس الدوام وليس الكون إلاَّ للجوهر الذي تومئ إليه الحالات الظاهرة، وسبيل إدراك الجوهر الخالد فيما يرى الدكتور زكى نجيب محمود هو الحدس النافذ. أو هو حدس المتصوف وبصيرة الفنان.
صفات للحظة أو الظرف في حياة كل كائن، هي صفة زائلة، ومن ثم فإن إدراكها لذاتها لا يعنى شيئًا، ولا يغنى عن الحق شيئًا.
الجوهر الحق، هو ذلك الجوهر الذي لا يقتصر وجوده على اللحظة المعينة أو الظرف الموقوت. هو الجوهر الذي لا تعرف طبيعته تمايزًا ولا تباينًا بين أجزائه.. إنه متجانس متصل لا تجزئة فيه ولا كثرة بين أجزائه. هو الذي لا يتفتت ولا ينقسم. هو وحده الذي لا يرد عليه موت ولا فناء. هو وحده الباقي. هو « وجه ربك » ذو الجلال والإكرام، وسبحان القائل في كتابه العزيز « كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإكْرَامِ ».