الشرق الفنان (11)

من تراب الطريق (1113)

الشرق الفنان (11)

نشر بجريدة المال الأحد 6/6/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

يتحدث الدكتور زكى نجيب محمود حديثًا موجزًا عن كونفوشيوس، ولكنه يختار له عبارة يراها عميقة المغزى فيما نحن الآن بصدده. تقول عبارة: « لا موضع لإنسان في المجتمع إلاَّ إذا درب نفسه أولاً على إدراك الجمال ».

فإذا فهمنا « إدراك الجمال » على أنه ما يتم باللمسة المباشرة، ولا يقوم على تحليل وتعليل وحجة وبرهان، فهمنا مراد الحكيم بعبارته تلك.. ذلك أن علاقة الأبوة ــ التي هي عنده أساس كل علاقة اجتماعية سليمة ــ ليست مما تحتاج إلى شرح وتفسير؛ فالوالد يحس علاقته بولده، والولد يحس علاقته بوالده، إحساسًا مباشرًا.. وهكذا ينبغي أن يكون إحساس الفرد في المجتمع السليم بسائر الأفراد؛ فإذا كان الشعور القومي خيرًا، فهو إنما يستمد خيريته هذه من كونه شعورًا بين أبناء الوطن الواحد شديد الشبه بالشعور الذي يربط أفراد الأسرة الواحدة، أي أنه شعور لا يقيمه صاحبه على منفعة مرجوة، ولا على نظرية علمية مجردة. وإذن فهو شعور قائم على ادارك « جمالي » لا على إدراك منطقي نظري.

هكذا كل العلاقات والآثار التي تقتضيها طبائع الأشياء التي يدركها الإنسان بفطرته دون ما حاجة إلى تحليل أو برهان أو إقناع، وليس هذا بحديث المفكر الغربي حين يحلل الشعور القومي أو طاعة الحاكم، الذي يجعل أساسه مبادئ نظرية مجردة عامة. ومثل هذا يقوله الفيلسوف الإنجليزي « لوك » والفرنسي « جان جاك روسو » عندما يتحدثان عن العقد الاجتماعي المفترض، وكيف نشأ وتطور.

الفرق بين الحالتين: الشرق، والغرب. هو الفرق بين النظريتين.

نظرة تنبئ عن الفطرة، وأخرى تلتمس المنطق العقلي والبرهان.

الأولى هي نظرة الفنان، والأخرى هي نظرة العالم.

مواجهة الحقيقة الوجودية مواجهة مباشرة، لا يتوسطها تحليل أو تدليل، هي لب الشرق وسمته فيما يقول الدكتور زكى نجيب محمود، لذلك كان الشرق أسرع قبل غيره في إدراكه للألوهية، وفي إدراكه قبل غيره للرابطة التي بينه وبين الوجود من حوله، وفي هذه المواجهة المباشرة لحقيقة الوجودية ــ تلتقي شتى فروع الثقافة الشرقية، قاصيها ودانيها، فلا فرق في هذه الخاصة بين أخناتون وبوذا وكونفوشيوس.

والمدار في كل هذه الحالات هو اللمسة المباشرة بين الذات المُدرِكة، والحقيقة المُدرَكة؛ وهي نفسها اللمسة المباشرة التي أدرك بها أنبياؤه وقديسوه ورهبانه ومتصوفوه ــ أدركوا بها حقيقة الوجود الخافية وراء الظواهر العابرة.

هذه اللمسة المباشرة بين الذات والموضوع، هي التي اتخذها الدكتور زكى نجيب محمود تعريفًا للنظرة الفنية إلى الحقيقة بالقياس إلى نظرة العلم؛ وهذا التباين يظهر بين الفنان في الشرق والفنان في الغرب، رغم تعاملهما في مجال واحد. فلا تجد نظرة المصور الصيني شبيهة كل الشبه بنظرة الفنان الغربي إلى الطبيعة.

يخرج المصور الغربي إلى الطبيعة مزودًا بأدواته، اللوحة والمنظر المراد تصويره ما ثلان أمامه، وما عليه سوى أن يجتزئ مما يراه جانبًا يثبته على اللوحة.

بينما يخرج المصور الشرقي إلى الطبيعة وليس معه شيء من أدوات التصوير ـ إنما يغرق نفسه فيما حوله حتى يصير جزءً منه، ليغمس نفسه في تيار الكون.

وحينئذ يتاح له أن يشهد الطبيعة في سياقها، وعندئذ تكون الصلة وثيقة مباشرة بين الرائي والمرئي بلا حائل، وكأنهما قد صارا شيئًا واحدًا، ولهذا تخرج صورة الفنان الصيني، والشرقي بعامة، وكأنها كلٌ واحدٌ متصل لا تمايز فيه بين جزء وجزء، يعكس المصور الغربي الذي يعنى بإبراز أجزاء الصورة بكيانه المستقل وأبعاده الثلاثة.

المعول عليه في الفن الشرق اندماج الفنان بذاته وبروحه في الحقائق الواقعة، واندماجها بحيث تؤكد جميعها ما بينها من صلة وبين الفنان في حقيقة واحدة.

زر الذهاب إلى الأعلى