السلطة القضائية بين الدور السياسي والأشغال بالسياسة

 كتب: محمد شعبان

 

منذ أن صاغ الفيلسوف الفرنسي مونتسكيو نظرية الفصل بين السلطات، وقسمها تقسيماً تقليديا إلي سلطان ثلاث: هي السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية والسلطة القضائية، صارت وظيفة القضاء في الدولة ذات طبيعة مغايرة لأية وظيفة تقليدية عادية.

فالقضاء في حد ذاته وبمفرده أضحى سلطة من سلطات الدولة الثلاث، وهذه السلطة صارت سلطة دستورية باعتماد أغلبية دساتير العالم لهذا التقسيم التقليدي للسلطات، ولهذه السلطة الدستورية دورٌ جسيمٌ يجاوز في مضمونه وفحواه الدور الذي تؤدية الوظيفةُ العامة التقليدية بوصفها إحدى أدوات الدولة في القيام على شئون أفراد المجتمع وتحقيق متطلبات حياتهم.

فحقاً وظيفة القضاء هى إحدى الوظائف العامة في الدولة، وصحيحٌ أن القضاة موظفون عموميون من الناحية الشكلية، لاحتفاظهم بقدر من السلطة العامة يتعاملون به مع جمهور الناس باسم الدولة، وتؤدي لهم هذه الأخيرة أجراً على نهوضهم بهذا العمل.

إلا أن وظيفة القضاء والقضاة لا تقف عند هذا الحد؛ وإنما القضاء والقضاة مسئولون عن الحفاظ على مقومات الدولة الديمقراطية، فهم المنوط بهم حماية الشرعية الدستورية وما يتفرع عنها من حقوق وحريات، بالإضافة إلى صيانة مبدأ سيادة القانون الذي هو أساس الحكم في الدولة كما تقول بذلك المادة 94 من الدستور والتي أخضعت الدولة بكامل مفرداتها وتفاصيل سلطاتها إلى القانون، وجعلت من استقلال القضاء وحصانة القضاة وحيدتهم ضمانات أساسية لحماية الحقوق والحريات.

ومن هنا ينطلق الدورُ السياسي للقضاء؛ فالقضاء هو المنوط به الحافظ على مختلف مقومات المجتمع التي استقرت في وجدان الأمة المصرية وعبر عنها دستورُها، فهو الحامي لحقوق الأفراد وحرياتهم التي كفلها لهم الدستور من مختلف جوانبها، وهو الضامن كذلك لاستقرار الدولة واستمرار وجودها والحيلولة دون أي تهديد يلحق بها بما يقوض أركانها أو يهدد السلم الاجتماعي لها.

والقضاء وهو بصدد النهوض بهذا الدور يعتمد على قضاة دعت الضرورة الإجتماعية إلى وجوب اتسامهم بخصائص معينة، هذه الخصائص تشكل في مجملها ضمانات لأداء الدور السياسي للقضاء في إطار منظومة السلطات الثلاث.

والدور السياسي الأبرز والذي يقع على عاتق القضاء النهوض به هو العمل على ترسيخ ونشر العدالة بين افراد المجتمع، وهذه العدالة تتحقق عند مراعاة التوازن بين مختلف فئات المجتمع أفراد أو مؤسسات، وذلك عن طريق التأكيد على صيانة الحقوق والحريات، وعدم قبول الافتئات عليها إلا لضرورةٍ ملحةٍ، وهذه الضرورةُ تقدرُ بقدرها، ويكونُ الانتقاصُ من هذه الحقوق أو الحريات أو تقييدها في أضيق نطاق وبقصد تحقيق مصلحة عامة وفقاً لمفهوم موضوعى وليس مفهوم شخصي لفرد أو فئة بعينها.

وسعيُ القضاة للنهوض بهذا الدور يستوجب منهم أن يكونوا على قدرٍ عالٍ من المهنية في حسم المنازعات وإنجازها بما يحفظ حقوق أشخاص القانون، كما يستوجب منهم التجرد والحيدة وحسن النظر والإدراك لمآلات الأمور والترفع عن الصغائر.

وأهم ما يقع على عاتق القضاة في سبيل نهوضهم بدورهم السياسي، هو الإيمان بفكرة الاستقلال من جانبها الموضوعي الذي يضع مسئولية عظيمة على عاتق القاضي تجعلُ منه قاضياً على نفسه أولاً قبل أن يكون قاضياً على جمهورِ الناس، فلا يتخذ من الإستقلال مَزِيَّة للتحلل من الإلتزام بسيادة القانون وفصم عراه، وأن يضع في اعتباره أن هذا الاستقلال ليس حقاً شخصياً له قابل للنزول عنه، فهذا الحق من الحقوق العينية التي كُفِلَتْ للسلطة القضائية كسلطة دستورية، ويقع على كل من يولى قدراً من هذه السلطة أن يُحافظ عليه.

كما أن النهوض بهذا الدور يستوجب من القضاة أن يكونوا وقَّافين على الحق، فوق كل ملامة، يصْدَعون بالحق الذي من المفترض أن تكون أُشربت به نفوسُهم وأقسموا يمين الولاء له كلما نَطقت شفاهُهم أو خَطَّتْ أقلامُهم، فلا يُسَطِّرون في أحكامهم أو قراراتهم إلا ما تُمْليه عليه ضمائِرُهم، مُهْتَدِين في ذلك بالتفسيرات والاجتهادات القانونية الصحيحة التي تعكس إرادة ومقاصد المشرع، وتحوطُها المبادئُ العامةُ للقانون، فلا تتبدل ولا تتغير بتغير المذاهب والأنظمة السياسية، وأن يسْتَحضِّروا في كل حال غَيْرتُهم السامية على كل انتهاك يمس شرعية القانون الذي ينهضون بصيانة سيادته أو يمس استقلالهم وحيدتُهم وتجردُهم الذي يشكل ضمانةً لحماية الحقوقِ والحريات المكفولة والمنظمة بهذه القوانين.

ويتعاظم الدور السياسي للقضاء والقضاة في تلك اللحظة التي متى وجدوا فيها تعارضاً فيما بين القوانين المأمورون بتنفيذها والإطار الدستوري و”الدولي الملزم للدولة” المنظم للحقوق والحريات الذي يشكل إطاراً ومرتكزاً لهذه القوانين، فعندئدٍ يتطلب ذلك الدورُ منهم أن يَهبُّوا منتفضين للزودِ عن هذه الحقوق وتلك الحريات، وذلك عن طريق اللجوء إلي القضاء الساهر على حماية دستور الدولة ممثلاً في (المحكمة الدستورية العليا) سعياً لإحباط كلِ أثرٍ لهذه القوانين من شأنه أن يُقيد منها أو يَسلُبها بالكلية.

ولعل هذا هو ما دعا المشرع إلى جعل حق اللجوء إلي هذه المحكمة موقوفاً على إرادة القضاة، فهم الأمناء على تنفيذ القوانين وتطبيقها، وهم وحدُهم الذين منحهم القانون سلطة تقدير مدى جدية ما يثار أمامهم من شبهات حول عدم دستورية نص في قانون أو لائحة، بل ومنح لهم القانون الحق في أن يَعرضوا هذه النصوص – من تلقاء أنفسهم متى عُرضت لهم أثناء نظر نزاع من الأنزعة وبان لهم منها عيب دستوري – على المحكمة الدستورية العليا للنظر فيما يعْتريها من شبهات بعدم الدستورية، وهو الأمر الذي تَقَرَرَ لمصلحةِ القانون في المقام الأول ولم يتقرر لمصلحة الخصوم فحسب.

زر الذهاب إلى الأعلى