الرقم الأسود في الجريمة

 بقلم الدكتور/ أشرف نجيب الدريني

ما الذي يدفع ضحية إلى الصمت رغم جسامة ما تعرضت له؟ ولماذا تُسجل دفاتر الشرطة والنيابة العامة أرقامًا أقل بكثير من الواقع؟ وهل يمكن أن تقوم سياسات جنائية فاعلة على بيانات منقوصة؟ ما أثر الخوف من المجتمع على فعالية النظام العقابي؟ وهل يمكن اعتبار الصمت في ذاته جريمة حين يُفضي إلى إفلات الجناة من العقاب؟

تلك الأسئلة تُمثل مدخلًا لازمًا لاستكشاف أحد أخطر الظواهر التي تُهدد فعالية منظومة العدالة الجنائية، وهي ظاهرة “الرقم الأسود للجريمة”، التي تُشير إلى الفجوة بين ما يُرتكب من أفعال مجرّمة في الواقع، وبين ما يتم الإبلاغ عنه رسميًا. ويُعد هذا الرقم بمثابة منطقة مظلمة في خارطة الجريمة، تختفي فيها معالم الضحية والجاني والواقعة القانونية، لتترك فراغًا إحصائيًا قاتلًا يؤثر على فهم المشرّع وتقدير القاضي وتخطيط الجهات الأمنية، ويُعطل البنية الوقائية للنظام القانوني برمته.

إن الرقم الأسود لا يُمثل مجرد نقص في البيانات، بل يُعد انعكاسًا لاختلالات أعمق تتصل بالثقافة الاجتماعية، ومواقف المجتمع من الضحية، ومدى الثقة في أجهزة العدالة. فكثير من الضحايا، لا سيما النساء والأطفال والمستضعفين، يتجنبون اللجوء إلى القانون مخافة العار أو الانتقام أو التجاهل، الأمر الذي يجعل من الصمت وسيلة بقاء، لكنه في الوقت ذاته يُمكّن الجناة ويمنحهم شعورًا بالحصانة. ولا يُمكن فصل هذا الصمت عن سياقات اجتماعية ترسّخ لوم الضحية، وتحملها عبء الجريمة، وتُشيح بنظرها عن فظاعة ما ارتُكب بحقها.

وتؤدي هذه الفجوة إلى نتائج جسيمة، فالنظام الجنائي، الذي يفترض أن يتأسس على الرصد الموضوعي للواقع، يفتقد إلى الصورة الكاملة للجريمة، ويغدو أقرب إلى من يُحارب طيفًا بلا جسد. فالسياسات العقابية، مهما بلغت دقتها، تفقد فعاليتها إذا لم تُبنَ على معطيات حقيقية تعكس طبيعة المجتمع وخصوصية الجرائم التي تُرتكب فيه. كما أن غياب البلاغات يُربك العمل القضائي، ويُقلل من قدرة أجهزة التحقيق على كشف شبكات الجريمة، لا سيما في الجرائم المنظمة أو العنف المنزلي أو الاعتداءات الجنسية، حيث يُعد الصمت عنصرًا فاعلًا في استمرار الجريمة واستفحالها.

وأما عن سُبل الإصلاح في مصر، تبرز الحاجة المُلحّة إلى خطة وطنية متكاملة تُعالج الرقم الأسود من جذوره، وذلك عبر حزمة من التدابير القابلة للتطبيق في ضوء البيئة القانونية والاجتماعية القائمة. يأتي في مقدمتها، إنشاء وحدات شرطية متخصصة في التعامل مع ضحايا الجرائم الحساسة، تتوافر فيها الخبرات النفسية والاجتماعية إلى جانب الكفاءة القانونية، مع ضرورة تعزيز وجود العناصر النسائية المؤهلة في هذا الإطار. كما يُعد تفعيل قنوات إلكترونية آمنة لتلقي البلاغات خطوة ضرورية لتجاوز حاجز الخوف، مع ربط هذه القنوات بجهات التحقيق بشكل مباشر. ولا يقل أهمية عن ذلك إدماج مفاهيم الإبلاغ وعدم التستر ضمن المناهج التعليمية، وتدشين حملات إعلامية تُعيد تشكيل النظرة المجتمعية للضحية، وتُعزز الإحساس بأن التبليغ فعل شجاع لا مُشين، وحق لا يُنتقص.

وينبغي كذلك تعديل بعض النصوص القانونية التي قد تُثني الضحايا عن الإبلاغ، لا سيما إذا كان القانون يُحمّلهم شيئًا من المسؤولية أو لا يوفر لهم حماية كافية، بالإضافة إلى دعم منظمات المجتمع المدني لتلعب دور الوسيط الآمن بين المواطن والدولة، وتقديم الدعم القانوني المجاني للضحايا، فضلًا عن إنشاء قاعدة بيانات وطنية دقيقة تُعنى بقياس الفجوة الإحصائية بين الجريمة المرتكبة وتلك المبلغ عنها، بما يُساعد الباحثين وصانعي القرار على وضع السياسات الأكثر فاعلية وواقعية.

إن التصدي للرقم الأسود لا يعني فقط تحسين جودة البيانات، بل يستهدف إعادة بناء الثقة بين الفرد والدولة، وتصحيح موازين القوة بين الجاني والضحية، واستعادة جوهر العدالة التي لا تتحقق إلا حين تُفتح الأبواب لكل من عانى بصمت. فالجريمة التي لا يُبلّغ عنها لا تختفي، بل تتمدد في الظل، وتتحول إلى طاعون صامت يُقوّض الأمن العام ويُفرغ النصوص من مضمونها.

وفي الختام، فإن المجتمع الذي يسمح للرقم الأسود أن يتضخم هو مجتمع يعاني من اختلال في منظومته القيمية والمؤسسية على السواء. فالسكوت عن الجريمة لا يُقلل من وقوعها، بل يُضاعف من آثارها، ويُسهم في تشويه العدالة وتهديد الأمن الاجتماعي. العدالة لا تُقاس فقط بعدد الأحكام الصادرة، بل بمدى قدرة الضحايا على الوصول إلى صوت القانون دون وجلٍ، وبمدى ثقة الناس في أن معاناتهم لن تُقابل بالريبة أو الإنكار،بل بالإنصاف والحماية والاعتبار. ولعل أسمى تجلٍ لحكم القانون ليس في النصوص، بل في الشعور العام بأن العدالة ممكنة، وأن الجريمة، أيًّا كانت طبيعتها، لا تجد ملاذًا في الظلام، بل تُسحب إلى نور الحقيقة والمحاسبة. فحين نكسر حاجز الصمت، نفتح أبواب الإصلاح، ونؤسس لعدالة لا تُقصي أحدًا، ولا تترك مظلومًا طيّ النسيان. والله من وراء القصد.

زر الذهاب إلى الأعلى