الرقابة الإدارية ومواجهة الفساد الإنتخابي
بقلم : أ/ محـمد شعبان
يعتبر الفساد من أخطر الآفات التي تواجه الدول، لما يترتب عليه من آثار وخيمة ومخاطر جمة على استقرار المجتمعات وأمنها، مما يقوض مؤسسات الديمقراطية وقيمها والقيم الأخلاقية والعدالة، ويُعرِض التنمية المستدامة وسيادة القانون للخطر، علاوة على الصلة الملحوظة بين الفساد وسائر أشكال الجريمة، وعلى الأخص الجرائم المنظمة كالإرهاب والجرائم الإقتصادية وعلى رأسها جريمة غسل الأموال.
والفساد وفقاً لأبسط المفاهيم ينحصر في إيثار المصالح الخاصة على حساب المصالح العامة عن طريق انتهاك المعايير والأطر القانونية التي تكفل التوازن في العلاقات الإجتماعية وعدم تعارض المصالح. وهو بهذا المفهوم لا ينحصر في صورة واحدة، وإنما تتعدد صوره بتعدد المصالح التي يهددها. فما بين فساد إجتماعي وفساد أخلاقي وفساد سياسي وفساد إداري تتنوع صور الفساد، وتتنوع معها أساليب المواجهة الإجتماعية والتشريعية.
والفساد السياسي يعتبر من أخطر صور الفساد على الإطلاق، لكونه فساد القمة الذي بتواجده وتمدده يعطي الفرصة لتنامي صور الفساد الأخرى تنامياً سرطانياً بما يهدد أركان الدولة، ويجعل أشكال الفساد الأخرى تنخر فيها كما ينخر السوسُ في الخشب.
والفساد الإنتخابي هو شكل من أشكال الفساد السياسي الذي يستهدف إفساد أداة من أدوات نظام الحكم في الدولة وهي الإنتخابات. فالإنتخاب هو الوسيلة الوحيدة التي تضع مبدأ التعددية السياسية والحزبية ومبدأ تداول السلطة موضع تطبيق، باعتبار هذا النظام هو سمة النظام الديمقراطي الذي يعبر من خلاله أعضاء الهيئة الإجتماعية عن إرادتهم في اختيار من يمثلهم.
ويتحقق الفساد الإنتخابي بكل فعل من شأنه الإضرار بالعملية الإنتخابية أو تعريضها لخطر تغليب المصالح الخاصة على المصالح العامة. ومن أوضح صور الفساد الإنتخابي؛ إطلاق المجال أمام الرشاوى الإنتخابية سواء من المترشحين أو من الناخبين، وإفساح المجال أمام المال السياسي للإخلال بالمساواة ومبدأ تكافؤ الفرص بين المترشحين، وتدخل شاغلي المناصب السياسية وشاغلي وظائف الإدارة العليا في الدولة في العملية الإنتخابية بالمشاركة في الدعاية الإنتخابية بقصد التأثير الإيجابي أو السلبي على نتيجة الإنتخاب أو على نحو يخل بتكافؤ الفرص بين المترشحين.
وما من شك في أن هذه الصور للفساد الإنتخابي مما يقع تحت مظلة تأثيم المادة (1) من قانون إفساد الحياة السياسية الصادر بالقانون رقم 344 لسنة 1952 والمعدل بالقانون 173 لسنة 1953 والمرسوم بقانون رقم 131 لسنة 2011 والتي نصت على أنه ( في تطبيق أحكام هذا القانون يعد مرتكباً لجريمة إفساد الحياة السياسية كل من كان موظفاً عاماً وزيراً أو غيره وكل من كان عضواً في أحد مجلسي البرلمان أو أحد المجالس البلدية أو القروية أو مجالس المديريات وعلى العموم كل شخص كان مكلفاً بخدمة عامة أو له صفة نيابية عامة وارتكب بعد أول سبتمبر سنة 1939 فعلاً من الأفعال الآتية: أ) عمل ما من شأنه إفساد الحكم أو الحياة السياسية بطريق الإضرار بمصلحة البلاد أو التهاون فيها… ). والتي رصدت لها المادة (2) من هذا القانون عقوبات مختلفة تصل إلى افقاد الأهلية السياسية والإعتبار السياسية المؤهلين للإنتخاب والترشح لعضوية المجالس النيابية وتولي الوظائف العامة القيادية والإنتماء إلى الأحزاب السياسي لمدة لا تزيد على خمس سنوات إلى غير ذلك من العقوبات التبعية والتكميلية التي أوردت المادة النص عليها.
فضلاً عن وقوعها كذلك تحت مظلة التأثيم الجنائي في قانون تنظيم مباشرة الحياة السياسية الصادر بالقرار بقانون رقم 45 لسنة 2014 والقانون رقم 40 لسنة 1977 بنظام الأحزاب السياسية والمعدل بالمرسوم بقانون رقم 12 لسنة 2011.
حيث حظر قانون تنظيم مباشرة الحقوق السياسية المشار إليه في مادته (34) على شاغلي المناصب السياسية وشاغلي وظائف الإدارة العليا في الدولة، الاشتراك بأية صورة من الصور في الدعاية الإنتخابية بقصد التأثير الإيجابي أو السلبي على نتيجة الإنتخاب أو الاستفتاء أو على نحو يخل بتكافؤ الفرص بين المترشحين، ورصد لمن يخالف هذا الحكم عقوبة الغرامة التي لا تقل عن عشرة آلاف جنيه ولا تزيد على مائة ألف جنيه فضلاً عن إجازة الحكم بعزل الجاني من وظيفته لمدة خمس سنوات متى كان لفعله أثر في تغيير نتيجة الإنتخاب. كما جرم هذا القانون كذلك شتى صور الرشوة الإنتخابية بتجرم سلوك كل من أعطى آخر أو عرض أو التزم بأن يعطيه أو يعطي غيره فائدة لكي يحمله على الإدلاء بصوته على وجه معين أو الإمتناع عنه وكل من قبل أو طلب فائدة من ذلك القبيل لنفسه أو لغيره، ورصد عقوبة الحبس مدة لا تقل عن سنة والغرامة التي لا تقل عن ألف جنيه ولا تجاوز خمسة آلاف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين، إلى آخر ذلك من الجرائم المؤثمة والمنصوص عليها في هذا القانون.
كما حظر قانون الأحزاب السياسية في مادته ( 11/3) على كل الأحزاب التي يرخص في تأسيسها وفقاً لهذا القانون قبول أي تبرع أو ميزة أو منفعة من أجنبي أو من جهة أجنبية أو دولية أو من شخص اعتباري ولو كان متمتعاً بالجنسية المصرية، ورصد عقوبة لمخالفة هذا الحكم في المادة (25) منه تبدأ من الحبس الذي لا تزيد مدته على ثلاث سنوات إلى عقوبة السجن فيما لو كان التبرع مقدم من أجنبي أوجهة أجنبية. وحظر كذلك في المادة ( 12/1 ) صرف أموال الحزب إلا على أغراضه وأهدافه طبقاً للقواعد والإجراءات التي يتضمنها نظامه الداخلي، ورصد عقوبة الحبس الذي لا تقل مدته عن سنة ولا تزيد على خمس سنوات لمن يخالف هذا الحكم. وقد أضفت المادة (14) على أموال الحزب صفة المال العام وعلى العاملين فيه والقائمين على شئونه صفة الموظفين العموميين في تطبيق أحكام قانون العقوبات وأخضعتهم لقانون الكسب غير المشروع.
والسؤال الذي يؤرق أعضاء الهيئة الإجتماعية بعد استعراض كل هذه النصوص القانونية يتعلق بمدى فعالية هذه النصوص في مواجهة شتى صور وأشكال الفساد السياسي الانتخابي؟ فالنصوص القانونية ذات الطبيعة الموضوعية تكاد تغطي أغلب صور الفساد الإنتخابي الخطيرة بما يفي بأغراض السياسة الجنائية للمواجهة، ولكن هل النصوص الإجرائية من شأنها أن تفي بهذه الأغراض كذلك، سيما تلك المنظمة لإجراءات ضبط هذه المخالفات والخروقات؟
مما لا شك فيه أن افتقاد القانون الموضوعي للسلطة التي تسهر على تطبيقه بحزم وفعالية سيفرغ الحماية الجنائية المقررة بموجبه من مضمونها. وقد أولى المشرع جرائم الفساد أهمية خاصة سيما بعد إعادة تنظيمة لقانون هيئة الرقابة الإدارية بموجب أحكام القانون رقم 207 لسنة 2017 والذي عالج القصور في قانون إنشائها بكفالة الاستقلال لها في أدائها لواجباتها فنصت المادة (1) المستبدلة بالقانون المذكور على أن ( هيئة الرقابة الإدارية هيئة رقابية مستقلة، تتبع رئيس الجمهورية، وتكون لها الشخصية الاعتبارية، وتتمتع بالاستقلال الفني والمالي والإداري. وتهدف الهيئة إلى منع الفساد ومكافحته بكافة صوره واتخاذ الإجراءات والتدابير اللازمة للوقاية منه ضماناً لحسن أداء الوظيفة العامة، وحفاظاً على المال العام وغيره من الأموال المملوكة للدولة ).
ويتضح من هذا النص أن المشرع أطلق العنان للهيئة لمواجهة هذه الآفة الخطيرة التي تسمي ( الفساد ) بشتى صورها وفي القلب منها شتى صور الفساد السياسي.
وعلى الرغم من ذلك فإن بقية النصوص التي اشتمل عليها القانون لم يتسن أن نستظهر منها سياسة المشرع المصري المؤكدة لوضع ملف منع ومكافحة الفساد السياسي وفي القلب منه الفساد الإنتخابي بيد الرقابة الإدارية.
فالمادة (2) من القانون إذ تناولت بالتنظيم اختصاصات هيئة الرقابة الإدارية، أوردت في الفقرات من (ا) إلى (د) بعض الإختصاصات التي يغلب معها على ذهن المطالع لها أن اختصاص هذه الهيئة محصور في نطاق محدود في إطار سياسة مكافة الفساد وهو الفساد الإداري ليس من بينه مكافحة الفساد السياسي الذي يعرض منظومة السياسية والحكم للخطر والضرر. حتى الفقرة (هـ) المضافة بالقانون رقم 207 لسنة 2017 بما نصت عليه من اختصاص إضافي وجديد يوسع من اختصاصاتها السابقة يمنحها الحق في كشف وضبط الجرائم التي تستهدف الحصول أو محاولة الحصول على أي ربح أو منفعة باستغلال صفة أحد الموظفين العموميين المدنيين أو أحد شاغلي المناصب العامة بالجهات المدنية أو اسم إحدى الجهات المدنية المنصوص عليها بالمادة (4) من هذا القانون، وكذا الجرائم المتعلقة بتنظيم عمليات النقد الإجنبي المنصوص عليها بقانون البنك المركزي والجهاز المصرفي والنقد الصادر بالقانون رقم 88 لسنة 2003 وفقاً لأحكامه، والجرائم المنصوص عليها بالقانون رقم 5 لسنة 2015 بشأن تنظيم زرع الأعضاء البشرية والجرائم المنصوص عليها بالقانون رقم 64 لسنة 2010 بشأن مكافحة الإتجار بالبشر. لم نلحظ أن المشرع منح الهيئة من ضمن ذلك الإختصاص بكشف وضبط الجرائم التي تقع بالمخالفة لقانون إفساد الحياة السياسية الصادر بالقانون رقم 344 لسنة 1952 والمعدل بالقانون 173 لسنة 1953 والمرسوم بقانون رقم 131 لسنة 2011، وكذا الجرائم المنصوص عليها بالقانون رقم 40 لسنة 1977 بنظام الأحزاب السياسية والمعدل بالمرسوم بقانون رقم 12 لسنة 2011 ، والجرائم المنصوص عليها في قانون مباشرة الحقوق السياسية الصادر بالقرار بقانون رقم 45 لسنة 2014 .
حتى إنه في قانون الكسب غير المشروع الصادر بالقانون رقم 62 لسنة 1975 وإن كان المشرع قد جعل لهيئة الرقابة الإدارية اختصاصاً في مكافحة هذا النوع من الجرائم وهو من ضمن جرائم الفساد السياسي. فإن ذلك مرهون بتكليفها من إدارة الكسب غير المشروع بناء على ما تقرره هئات الفحص والتحقيق من بحث بيانات حالات الكسب غير المشروع.
وهذا القصور التشريعي يحمل التناقض بين المادة الأولى التي عرفت هيئة الرقابة الإدارية وأوردت الحكمة من إنشائها وإعادة تنظيمها، وبين المواد المنظمة لاختصاصاتها، وهو ماتزال معه -على الرغم من ذلك- الثغرات التشريعية لمواجهة الفساد السياسي على الصعيد الإجرائي مفتوحة لم تنغلق ولم يتم معالجتها، بما يفقد النصوص الموضوعية لقيمتها في كفالة المواجهة التشريعية للفساد السياسي وفي القلب منه الفساد الانتخابي، بما يلقي على المشرع – إن أراد مواجهة حقيقية للفساد السياسي عموماً و الانتخابي خاصة- واجب إعادة النظر في النصوص المنظمة لاختصاصات الهيئة بما يكفل شمول هذه الإختصاصات لمواجهة شتى صور الفساد السياسي وفي القلب منه الفساد الإنتخابي الذي ربما لا تقوى على مواجهته اللجان الإدارية المشكلة بمعرفة الهيئة الوطنية للإنتخابات والتي تختص برصد المخالفات المتعلقة بالإنتخاب والتي تقع انتهاكاً للقوانين واللوائح وتعليمات الهيئة المنظمة لعملية الانتخاب.
والله من وراء القصد