الردة العقلية والحضارية

الردة العقلية والحضارية

نشر بجريدة أخبار اليوم السبت 22/8/2020

بقلم: أ. رجائي عطية نقيب المحامين

من يراقب بإمعان ما يجري هذه الأيام، لا يملك إلاَّ أن يستهول ما صارت إليه الأحوال من تراجع مخيف دلت عليه أعراض وظواهر مرضية بدأت تشرئب وتتزايد من سنوات.. تحول الحوار إلى شجار، وحلت الكلمات وربما طلقات الاغتيال، محل الحجج والبراهين والآراء.. ضاق الأفق وضاقت معه الصدور، وضمر الفكر، وعلت نبرة الكلام الذي ضل هدفه وتاهت منه غايته.. لا يكاد أحدُ يبدي فكرًا أو يطرح رأيًا إلاَّ وتعاجله فرق الضرب واللكم والكاراتيه، أو الرجم بالكفر، أو قذائف السباب بأقذع الألفاظ.. من يراجع التراشقات والانفلاتات الدائرة، يصدمه أنها آية ظاهرة على تراجع العقل وزحف الفراغة وعقم التفكير وتفشي لغة البلطجة.. شيوع هذا التراجع يؤدي إلى تعقيم العقل وتجميد الفكر وإغلاق كل منافذ التقدم والإصلاح!.

والسؤال الذي يطرح نفسه بشدة هذه الأيام.. لماذا تجاوزت حملات البذاءة في بعض الصحف كل حدّ؟! ولماذا لم يعد معظم الناس ينشدون سوى الفضائح والإثارة؟!

من ضيق الفكر وتراجع العقل وجموح التعصب، أن تعجز عن رؤية ما يراه غيرك، وأن لا تواجهه إلاَّ بالرفض وربما بالإدانـة والشجب، قبل أن تتيح لنفسك فرصة مناقشته والتأمل فيه!

ومن مظاهر التراجع العقلي أن يُحسب خطأ الفرد على أسرته أو قبيلته أو فئته أو طائفته.. مع أن الخطأ خطأ واحد.. لا ذنب ولا جريرة فيه على أسرته أو قبيلته أو فئته أو طائفته.. من أجل هذا تتعقد الأمور وتزداد وتربو العداوات!!

وفي الوقت الذي تنشغل فيه إسرائيل بهدم وتخريب المسجد الأقصى وتهويد القدس، يتعارك البعض حول النقاب الذي يحجب وجه المرأة.. لأنه عورة.. مع أنه خلقة الله تعالى، جعله سبحانه لحكمةٍ وكرامة !!.. ولا يسأل أحدٌ من المتشنجين نفسه لِمَ إذن أمر القرآن المجيد بغض البصر عن النظر للمرأة ؟!

من دلائل التراجع الفكري والحضاري، أنه بعد قرابة قرن من الزمان الذي تنادى فيه قاسم أمين وغيره من المتنورين -بتحرير المرأة من أغلال القرون الماضية- يرتد البعض ويعود إلى اعتبار المرأة عورة من قمة رأسها حتى أخمص قدميها.. حتى وجهها وكفيها، وألاّ نرى سبيلا إلاّ إخفاء عورة الوجه بستار النقاب، وحجب عورة الكفين بالقفاز !!

والغريب أن الذين يتنادون بحجب وجه حواء وراء نقاب، لا يمانعون في أن تُعلم وتتعلم، وفي أن تنتخب وتُنْتخب للمجالس النيابية والشعبية، وفي أن تؤدي دورًا في المجتمع لم يعد بمستطاع أحد أن ينكره.. ولكن لا يكلفون خاطرهم الشريف ببيان كيف يمكن لحواء أن تنهض بهذا كله ووجهها «عورة» محجوبة بنقاب!

وفي الوقت الذي صار فيه العالم قرية صغيرة عبر الفضائيات، ويستطيع المشاهد أن يطالع كل ما فيه وأن ينتقل من أقصى الجنوب إلى أقصى الشمال، ومن الشرق إلى الغرب، بمجرد ضغطه على زر مفتاح، إلاَّ أننا لا نزال أسرى متجمدين عند الهامشيات والشكليات، لا يجود علينا العقل إلاّ بأن وجه المرأة عورة يجب أن ينسدل عليه ستار النقاب!

وفي الوقت الذي راجع التيار الإسلامي في بعض البلاد نفسه، نرى التيار الإسلامي محلك سر في مصر، لا يزال المعتدلون متوقفين عـن المراجعة، والمتطرفون يترددون فيها !

لا أدري ماذا وراء بداية شيوع تعبير «مصر الفرعونية» و«المصريون الفراعنة»، حتى بات يطلق على المنتخب المصري لكرة القدم: «فريق الفراعنة».. هل هناك علة معلومة أو غاية مرجوة أو خطة مقصودة وراء إحلال «الفرعونية» محل «العربية».. مع أننا نلعن الفرعون في كل تلاوة وفي كل صلاة ؟!!

إلام ترتد كل هذه الظواهر المؤسفة التي زحفت علينا.. لقد صرنا على غير ما كنا عليه، وتراجعنا وارتددنا بدلاً من أن نواصل التقدم والاستنارة.. هل هو فراغ المَعِين وضحالة الثقافة والمعرفة؟! .. هل مردّه إلى ضيق الأفق وضمور الفكر وضيق الصدور وقلة الصبر؟! .. أم أنه الجمود والتعصب وحالة الاستقطاب وحب الاستعراض والانتصار للذات؟!

إن مصالح الأوطان العليا تصير على المحك نتيجة التراجع العقلي والردة الحضارية، والتعصب والتطرف.. فهل يتقدم العقلاء ليتنادوا بوقفة للمراجعة لما صارت الأمور إليه، وما ينبغي أن ترنوا وتتطلع إليه لتعاود التقدم إلى حيث ينبغي أن يكون ؟!

علي عبدالجواد

صحفي مصري ، محرر بالمركز الإعلامي لنقابة المحامين ، حاصل على بكالوريوس في الإعلام - كلية الإعلام - جامعة الأزهر ، عمل كمحرر ورئيس قسم للأخبار في صحف مصرية وعربية.
زر الذهاب إلى الأعلى