الذكاء المجرّم

 مقال بقلم الدكتور أشرف نجيب الدريني

 

كيف يمكن لصوتك أن يشهد ضدك؟ كيف يمكن لوجهك أن يُتهم في جريمة لم يرتكبها؟ بل، كيف يمكن لوجدان العدالة أن يُخدع بما لم يحدث؟ نحن لم نعد نتحدث عن احتمال نظري أو خيال سينمائي، بل عن واقع رقمي قيد التحقق كل لحظة. واقع جديد اسمه “التزييف العميق”، تُحاكي فيه الآلة ملامح الإنسان ونبراته، وتزيف حركاته وكلماته بدقة مرعبة، حتى إنك لتقف أمام المحتوى لا تدري: أهو حقيقي أم محض اصطناع؟ ووسط هذا الزيف البصري والصوتي الذي صار في متناول اليد، يتعاظم السؤال: أين يقف المشرّع من كل هذا؟!

 

لقد تبدلت طبيعة الجريمة. لم نعد بحاجة إلى سلاح، ولا إلى شهود، ولا حتى إلى حضور مادي. صارت الأدلة تُصنع كما تُصنع المشاهد في الأفلام. يُمكن اليوم أن تُنتج مقطعًا صوتيًا لشخصية عامة تعترف فيه بما لم ترتكبه، أو تسُب فيه جهة لم تذكرها، أو تحرّض على فعل لم تخطر به أصلًا. بل يُمكنك أيضًا أن تُركب لها مشهدًا بصريًا متقنًا تنطق فيه بما تريد، أو تظهر فيه بوضع مشين لم يحدث. الذكاء الاصطناعي، وهو ما يمثل قمة تطور التقنية، أصبح في بعض استخداماته معولًا يهدم أسس الثقة وقرائن البراءة. ووسط هذه الطفرة، كان من المتوقع أن يسارع المشرّع إلى ضبط المفاهيم وتقنين الأفعال وتحديد المسؤوليات. لكن الواقع التشريعي لا يزال متأخرًا.

 

في القانون المصري، ما زال التشريع الجنائي الرقمي قابعًا في إطار عام. فالقانون رقم 175 لسنة 2018 بشأن مكافحة جرائم تقنية المعلومات لم يتناول التزييف العميق صراحة، بل اقتصر على حماية الخصوصية العامة، وتجريم انتهاكها بنشر الصور أو البيانات دون رضا صاحبها، سواء أكانت المعلومات المنشورة صحيحة أم كاذبة. المادة 25 منه تُعاقب على الاعتداء على القيم الأسرية أو على الحياة الخاصة، لكنها لم تلتفت إلى البعد التكنولوجي الجديد، ولم تتحدث عن المحتوى المركب أو المحاكى تقنيًا. فلم تذكر الذكاء الاصطناعي، ولا الشبكات التوليدية، ولا تركيب الصوت أو الصورة بهدف الإضرار. والنتيجة أن من يُنتج مقطعًا مزيفًا باستخدام الذكاء الاصطناعي، قد يفلت من العقاب، إذا لم تتحقق عناصر الاعتداء التقليدي على الخصوصية أو القيم. وفي ذلك خطر جسيم، لأن التزييف العميق لا ينحصر في انتهاك الخصوصية، بل يمتد إلى تشويه السمعة، وتأليب الرأي العام، وتزوير الوقائع.

 

في الإمارات العربية المتحدة، ورغم ما يُعرف عن تطورها التشريعي السريع، لم يختلف الوضع كثيرًا. القانون الاتحادي رقم 34 لسنة 2021 بشأن مكافحة الشائعات والجرائم الإلكترونية تضمن مواد كثيرة تحاصر المحتوى الضار على الشبكة، لكنه أيضًا لم يأتِ بنص مباشر يجرم التزييف العميق. المادة 43 تتعلق بجريمة السبّ الإلكتروني، والمادة 44 تجرم نشر صور أو مقاطع تمس خصوصية الغير، أما المادة 54 فتعالج مسألة استخدام الروبوتات لنشر الشائعات، لكنها لا تعالج الاستخدام العمدي للذكاء الاصطناعي في إنتاج مقاطع مزيفة تستهدف هوية الفرد وسمعته. هذا الغياب التشريعي لا يعكس فقط ثغرة قانونية، بل يعكس أيضًا قصورًا في إدراك خطر هذه الظاهرة، التي تتطلب تعريفًا قانونيًا واضحًا، وعقوبات رادعة، وإجراءات جنائية دقيقة، تحفظ العدالة وتمنع التلاعب الرقمي بالحقائق.

 

إن ترك هذا النوع من الجرائم في دائرة التجريم العام، دون وصف دقيق أو تعريف محكم أو نص خاص، يفتح الباب لتفاوت الأحكام، ولصعوبة الإثبات، بل ولتعثر حماية الضحايا. إننا أمام جريمة لا تُرتكب بأدوات مادية تقليدية، بل بخوارزميات. والمعتدي قد يكون مجرد مستخدم، لكنه يستخدم أدوات قادرة على إعادة تشكيل الحقيقة، بل اختراعها من العدم. فكيف يُحاكم على فعل لم يُصنف بعد كجريمة؟ إن ما نحتاجه ليس فقط تحديث النصوص، بل إعادة رسم المفاهيم: تعريف “المحتوى المزيف تكنولوجيًا”، وتجريم استخدام الذكاء الاصطناعي في المساس بسمعة الأشخاص أو بحقيقتهم الرقمية، وإنشاء وحدة متخصصة للخبرة الفنية في التحقيقات الجنائية الرقمية.

 

الأمن القانوني لا يتحقق بالنوايا، بل بالنصوص القادرة على مواكبة العصر. ومن المؤسف أن التكنولوجيا تتقدم بخطى سريعة، بينما القوانين تسير على استحياء. ويبقى الضحايا في المنتصف، تتساقط كراماتهم في مشاهد مزيفة، ويُحاكمون أحيانًا أمام الرأي العام دون فرصة للدفاع، لأن المقاطع تُقنع من يشاهدها، حتى ولو كذّبها المنطق. ومن هنا، فإن تأخر التشريع لا يُعد مجرد نقص، بل خذلان للعدالة، وتفريط في الحماية الواجبة للأشخاص. استحداث نص قانوني خاص وصريح يُجرّم “التزييف العميق” في ذاته، دون الاضطرار لربطه بنتائج كالتشهير أو المساس بالسمعة. فغياب التعريف القانوني للفيديوهات أو التسجيلات المركبة بالذكاء الاصطناعي يؤدي إلى إفلات الجاني من العقاب، أو إلى إسقاط الدعوى في غياب ركن الضرر أو سوء النية التقليدي.

لذا، اقتراح: إدراج “التركيب الرقمي للهوية” ضمن صور الاعتداء على الحق في الصورة والصوت والهوية المعنوية، سواء للشخص الطبيعي أو الاعتباري، حتى وإن لم يُستخدم المحتوى المزيف بشكل علني، لأن مجرد إنشائه بقصد التهديد أو التلويح به يعد سلوكًا مجرمًا. إلزام المنصات الرقمية العاملة في الدولة بوضع أنظمة كشف تلقائي للمحتوى المزيف (Deepfake Detection Protocols)، وربطها قانونيًا بمسؤولية تقصيرية أو عمدية حال السماح بنشر هذا النوع من المواد وعدم إزالتها فور الإبلاغ.

 

تخصيص وحدات رقمية داخل النيابة العامة والقضاء الجنائي تُعنى بتحليل أدلة التزييف العميق باستخدام أدوات التحليل الجنائي الرقمي المتقدمة، بدلًا من ترك القاضي فريسة لجدل غير تقني بين دفاع ومتخصص. توسيع نطاق التجريم في قوانين مكافحة الجرائم الإلكترونية ليشمل كل استخدام ضار لأدوات الذكاء الاصطناعي في تشويه أو تزوير تمثيل الأشخاص، حتى لو لم ينتج عنه ضرر مادي مباشر، باعتبار أن الجريمة في هذه الحالة تهدد ثقة المجتمع في “الحقيقة البصرية والسمعية”.

 

تطوير بروتوكولات تعاون دولي سريع (Fast-track Protocols) بين الجهات القضائية والأمنية في الدول المختلفة، لأن جرائم التزييف العميق غالبًا ما تُنتج خارج الدولة وتُنشر محليًا، ما يستلزم مذكرات توقيف وحجب ومتابعة دولية فعالة. إدماج هذه الجرائم ضمن المناهج الدراسة في كليات الحقوق، علاوة على دورات تدريبية لضباط الشرطة ووكلاء النيابة والقضاة، لأن فهم التقنية شرط أساسي لتطبيق القانون على ظواهرها، خاصة أن بعض صور التزييف العميق قد يصعب كشفها حتى بالعين المجردة.

 

نحن لا نواجه تقنية عابرة، بل نواجه زمنًا جديدًا يُعاد فيه تشكيل الإنسان من خارج نفسه، صوتًا وصورةً وحضورًا رقميًا، بلا إذنه ولا علمه. لم تعد الجريمة تُرتكب فقط ضد الجسد، بل باتت تُرتكب ضد “الذات”، ضد الحقيقة، ضد الوعي الجمعي. التزييف العميق ليس مجرد اعتداء على الخصوصية، بل هو تزييف للواقع ذاته، وتدمير لثقة الناس في ما يرونه ويسمعونه. ومن هنا، فإن الصمت التشريعي في مواجهته ليس حيادًا، بل تقصيرٌ يُنتج العدوان ويؤسس للفوضى البصرية والسمعية والأخلاقية. إن القانون، ما لم يُواكب هذا التطور الخطير، سيبقى أداةً تقليديةً أمام موجة ذكية بلا ضوابط. وإن العدالة، ما لم تتسلح بالعلم والتقنية، ستقف مكتوفة الأيدي أمام جرائم لا تُترك فيها بصمات، بل تُترك فيها آثارٌ نفسية واجتماعية لا تُمحى. والله من وراء القصد.

زر الذهاب إلى الأعلى