الذكاء الإنساني: الاستعداد والحصاد ! (5)
من تراب الطريق (1048)
الذكاء الإنساني: الاستعداد والحصاد ! (5)
نشر بجريدة المال الخميس 25/2/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
ازدياد الانفراج والاتساع يتشابه بين البشر، لكنه لا يتطابق قط.. لأن التطابق يحول دون التشابه ويخلق كائنات بغير ذوات مختلفة ونفوس كل منها خاصة بصاحبها وحده، ويجعـل وجود مجتمعات الآدميين مستحيلا على الوضع الذي كانوا ومازالوا عليه، وسيبقون مختلفين متشابهيــن إلى أن يفنوا.. ويبدو أن ذلك التشابه مع الاختلاف أو الاختلاف الملازم للتشابه ناموس كوني سائد في كل الأحياء.. كما يبدو أن البيئة تسهم إسهامها الواسع في معالم وأوجه هـذه الاختلافات، وتساعد على إيجاد الأجناس والأنواع والأصناف والبطون والقبائل والطوائف والعائلات والأسر. وهذه تنويعات بشرية استعملت فيها علوم البشر اصطلاحات متفقاً عليها، تجمع بين كل مجموعة من المجاميــع وجـوه التشابه والاختلاف الواضحة التي تميزها في عين الآدمي، عن غيرها من المجاميع والتي يجمع بينها وبين غيرها وجوه تشابه واختلاف أعم.. وهكذا صعودا إلى أصل كلى واحد، أو نزولا وتفصيلا وتنويعا وتخصيصا إلى قوم بعينهم أو قبيلة بعينها أو عائلة تتميز عن سواها من الأقوام أو القبائل أو العائلات بما تختص به هي وما لا يشاركها فيه غيرها !.. وسبحان القائل في كتابه العزيز: « يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ » ( الحجرات 13 ) صدق الله العظيم.
رأينا أن التشابه مع الاختلاف أو الاختلاف الملازم للتشابه ناموس ملحوظ.. ساهم مع البيئة في إيجاد الأجناس والأنواع والأصناف والبطون والقبائل والطوائف والعائلات والأسر.. وهذا كله قد لا يكون صحيحا كونيا، لكنه هو الطريق الأمثل الذي ارتآه البشر حتى الآن ليتمثلوا فيه ويفهموا تركيب الحياة والأحياء على هذه الأرض.. وهو تركيب مبنى على أسس مادية صرف.. لا شأن لها على الإطلاق بالمطلقات والمثل والروحانيات والدينيات والأخلاق والقيم.. وهذه كلها أجزاء لا تتجزأ من بشريتنا، وهي تشكل معنى إنسانيتنا المتميز الذي كان ويكون وسيكون معنى دائما فقط، ولن يكون مادة أو خاصية من خواص المادة قط.. وليس ذنبنا أننا أناسى مغروسون في المادة والوجود المادي مع باقي الأحياء على هذه الأرض.. ولا هو ذنبنا أننا أناسى يمكنهم على نحو ما أن يفهموا المادة والمعنى.. وليس في ذلك ظلم نشعر به بحق ـ لأننا منحنا حياتنا الإنسانية كخير ميزنا به ومنحة وعطية أهديت إلينا على وجه الاختصاص.. وعلينا أن نرحب بها ونتقبلها بالشكر كل الشكر الخالي من الاعتراض أو التحفظ.
هذا وإحساسنا بالماديات وبآلياتنا المادية وإن يكن في ذاته أمرًا غير مادي، إلاّ أنه مرتبط بها ارتباطا يكاد يكون تاما.. وهو طريقنا الوحيد العادي لإدراكها.. وآلياتنا المادية رغم أنها تتجاوز كثيرا ما نعرفه منها، إلاّ أنها محدودة بحدود حواسنا، أما معانيها ـ فلا تعتمد كثيرا على الحواس أو الإحساس بالماديات.. ولا حصر لإمكاناتها وتوليداتها واشتقاقاتها وتبادلاتها وتركيباتها وموافقاتها ومقابلاتها.
وتعامل الآدميين الذي لا ينقطع في صحوهم ونومهم تارة مع الآليات وتارة مع المعنويات وطورا مع خليط من هذه وتلك ـ هو نفسه غير مادي.. إذ هو سمة من سمات الحياة، وليس من سمات المادة غير الحيّة ولا مـن سمات المحسوسات. المهم أننا قد نستعمل الآليات والمباني معا في يسر تام وفي ذات الوقت دون أن نشعر بالتناقض أو التنافر.. وذلك بفضل كوننا أحياء.. إذ الحياة وهي غير مادية مغروسة ـ كما قلنا ـ في المادة، تتناول المادة بيد وتتناول المعاني باليد الأخرى، وتمزج ما في اليدين بلا أدنى صعوبة.. وهذا حاصل باستمرار في الوعى لدي الآدمي.. فالعجب ـ إن كان هناك موضوع لعجب ـ هو في الحياة نفسها التي بها نميز في حدودها بين الوجود والعدم، وبين الكون والكائنات، وبين الوعي واللا وعى، وبين المعنويات والماديات التي لا نكف عن تقسيم كل شيء آخر بسببها ـ إلى قسمة أصلية كلية بين حىّ وميّت وبين طاقة وجسم وبين غاز وسائل وجامد.. في حين أنها تسوقنا منذ أن نولد إلى مزج هذا كله في طريقها إلى نفس المجرى في نفس المنحدر !