الدين والمال

من تراب الطريق (921)

الدين والمال

نشر بجريدة المال الأربعاء 26/8/2020

بقلم: أ. رجائي عطية نقيب المحامين

في كتابه الرائع: «معالم التقريب» يطرح أستاذنا الجليل محمد عبد الله محمد، الفقيه الشاعر الأديب، اتصال الدين بالمال من زاوية استخدامه والانتفاع به، فيرى أن ذلك اتصال حتمي ليس منه مفر.. إذ الدين لا تنقطع حاجته لاستخدام المال، ولذلك وغيره كانت الزكاة من أركان الإسلام، وكانت الصدقة من أوكد وسائل التقرب إلى الله سبحانه وتعالى.

والتقرب إلى الله بإنفاق المال، يجد طريقه الرئيسي في بر الفقراء والمحتاجين والغارمين، ومن أجل هؤلاء قيل للقادرين ـــ بنص الكتاب ـــ «مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا» ؟.. فالدين يحمل على عاتقه أعباء ومشاكل الفقر والفقراء والضعفاء.. فهو يجبر كسرهم، وينصر ضعفهم، ويكفكف ويتبنى حاجاتهم، ويضعها في صدارة وأولوية وجوه إنفاق المال لله.

وحتى حين يجاوز الدين عنفوانه، وحين يعود المال في النفوس إلى مركز الأهمية والتصدر، ترى المال حاضرًا بمشيئة أصحابه في توجيه صدقاتهم ونذورهم وما يحبسونه من أوقاف وغيرها لعمل الخير.. وكثيرًا ما يتوخى هؤلاء تخليد الذكر باستخدام المال في إقامة ما يبقى من الآثار المادية، وقد يضنّون في ذات الوقت بإنفاق أموالهم أن تستهلكها أولا بأول حاجة الفقراء، فيفضلون إنفاقها في المساجد الفخمة، وتهيئتها بالفرش الغالي والتحف النفيسة ه وما يلحق بها من المكاتب والمدارس والسبل.. فيخالط تأثير الدين في أذهان وخيال الناس ـــ فخامة البناء ومتانة المعمار وروعة الفنون والصناعات الزخرفية والتشكيلية.

وقد ألفنا وألف أسلافنا ذلك من عدة قرون، فصار بذل المال للقربى من هذا الطريق ـ وسيلة للتعبير عن التدين، وأيا كان مصدر المال أو وسيلة الحصول عليه وجمعه، وصارت هذه القرب الدينية بابا لاكتساب تقدير عامة الناس وجماعة المتدينين، ومحال على أهل التقريب وغيرها من الدعوات الإسلامية، محال عليهم تجاهل هذا الواقع القـديم عميق الجذور.. ولكن عليهم محاولة تلطيفه وتخفيفه بمحاولة نقل جانب من اهتمام الناس من هذه القرب الموضوعية إلى المزيد من الاهتمام بتضاريس الناس، وإلى المزيد من رصد الأموال والقدرات لخدمتها والتقرب إلى الله برعايتها ونصرتها.

وربما كان واضحًا أنه لم يعد بالوسع رد المسلمين إلى بساطة الحياة التي كان عليها المسلمون الأوائل إبان عنفوان الدين، فالحق الذي لا يمارى فيه إلاَّ مكابر ـــ أن غالبية المسلمين لم يعودوا قادرين ـــ من قرون ـــ درة آبائهم الأوائل ، على تذوق المعنويات والتنبه إليها والانفعال بها إلاّ في إطار مادي حسي جذاب.. ولم يعد ذلك الأثر الذي كان للمظهر المسكين، ولا صار فيه ما يوحى بالقداسة لمعظم الناس، لذلك انصرفوا – كما نلاحظ ـــ إلى المبالغة في تزيين المصاحف والمساجد والمزارات والقبور وغيرها من الأماكن العزيزة عليهم أو ذات القداسة عندهم.

قد فتر شيئًا فشيئًا الاهتمام الشديد بالمعنويات وما كان يصاحبها في البدايات من بساطة تامة وازدراء للمظاهر المادية، ثم أخذت حياة الناس تجمع بين الطابعين الروحي والحسي، وظل هذا الجمع مقترناً بالاتزان البعيد عن المبالغة، حتى أوغل بندول التاريخ في الانحراف نحو الحسيّات، فتقلص الطابع الروحي، وتغلب الطابع الحسّي، حتى لم يعد معظم الناس قادرين على تصور وتذوق المعنويات والروحانيات بمعزل عن هذه الإطارات الحسّية التي دخلتها الفخامة والأبّهة !

إن الدين ليس وسيلة تحمى المكانة والهيبة للعالين في الأرض، بل هو وكما أراد الله روضة سمحة لبِر الفقراء والضعفاء والمحتاجين، وباحة تؤوى حيرتهم وغربتهم، وتمنع ظلمهم، وتكفكف ضعفهم وتعينهم على بلائهم !

وعصرنا على كثرة ما استحدث فيه، أطلت فيه بقوة مشكلة الفوارق الاجتماعية الضخمة، وشدة وعمق الشعور بانقسام الناس انقسامًا حادًا إلى مهمّين وغير مهمّين، وما ينبني على هذا من تقسيمات فرعية أوجدت ما يشبه الهرم الذى يتسنم قمته أفراد قلائل، منهم تتدرج الأهمية نازلة درجة درجة حتى تبلغ أرض المجتمع حيث تنعدم أهمية الأفراد كأفراد، ويشيع الإحساس بالرخص أمام قوة ومكانة المال !!

ولم تفلح النظريات والنظم الحديثة، ولم توفق إلى وسيلة تساعد الإنسان الفرد العادي على تقبل هذا الشعور المرير بالرخص وعـدم الأهمية، إزاء أناس آخرين يراهم ويعرفهم، يتمتعون بالأهمية، وحياتهم ثمينة جداً بعكس حياته المسترخصة !!

والإذعان للأمر الواقع لا يمنع الناس من النظر ولا من عقد المقارنة، ولا من عدم الاقتناع وعدم الرضا الذى قد يبلغ في بعض النفوس مبلغاً يدعو إلى الحقد والتطلع للتدمير ! وهـذه النتيجة الكئيبة تبدو حتمية ليس منها مفر حين تقاس أهمية الإنسـان بمقاييس تستند إلى قيم مادية !

والله عزّ وجل لا يقبل هذا ولا يرضاه، ولا يقبل الدين أن ينقسم الناس إلى مهمّين وغير مهمّين، لأنهم جميعاً مهمّون في عين الرب تبارك وتعالى.. مهمّون كآحاد وأرواح كل منها طائره في عنقه.. فكل إنسان أيّاً كانت نظرة الدنيا إليه، وأيّاً كان مكانه أو مكانته، يستطيع أن يضع يده المسكينة في يد الرب مالك الملك والملكوت، فلا يتركها عزّ وجل إلاّ إذا سحبها صاحبها في ساعة شقوة.

إن عين الحق سبحانه وتعالى لا تبالي بالفوارق بين القصر والكوخ، وإنما ترى الفوارق في قلوب ساكنيها.. ولا يوجد في القرآن المجيد إلاّ مصدر واحد لأهمية الإنسان في عين نفسه وفي عيون الناس هو التقوى والعمل الصالح والولاء الصادق لله عزّ وجل بلا شريك .

زر الذهاب إلى الأعلى