الدين والحرية
من تراب الطريق (907)
الدين والحرية
نشر بجريدة المال الأربعاء 5/8/2020
بقلم: أ. رجائي عطية نقيب المحامين
قد يتبادر إلى الذهن أن الدين والحرية نقيضان لا يجتمعان، فالدين أحكام ونصوص وتعاليم، والحرية انطلاق قد يحسبه البعض انطلاقًا بلا ضوابط ولا حدود.
الحرية قد تؤدي إلى مفارقة الحزب أو المذهب، وهي في ذلك لا تتقيد إلاَّ بما ينبع من فكر صاحبه حر فيما يراه أو يعتنقه، بينما لا وجود لفكرة مفارقة الدين، ولا الخروج على قيمه ومبادئه وأحكامه.
على أن الدين لم يصادر حق أهله في الأخذ من أسباب ومقومات الحضارة بما يشاءون، مادام ذلك لا يتعارض مع قيم ومبادئ الدين، لذلك لم يصطدم رجال القانون قضاة ومحامين ومنفذين، كما لم يصطدم المتعاملون والمتقاضون، لم يصطدموا بالدين في تطبيق القوانين الوضعية التي لم يأخذ بعضها بما في الدين، مادام لا يتعارض مع مبادئه.
إن الله تعالى هو ِوحْدة الموحدين الحقيقية، وهـو وجودهم الحي.. هو وحْدَه سبحانه وتعالى الذي شد ويشد إليه مئات الملايين من الضعفاء والفقراء، فلم ولن تبتلعهم قوى هذا العصر الخطرة الشريرة، وهذا الشعور العميق الغائر في نفس المؤمن، هو الحبل الذي يقيه ويتماسك به، وقتل هذا الشعور هو الذي يقتل ويجافي الدين.
والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية، وما يتبعها من حرية الرأي والفكر والاعتقاد، لا يلغي ولا يصادر الدين، ولا يخل بالتدين، فالمفهوم السياسي للحريات أنها ضمانات من صنع الناس، شرعوها وفرضوها بمجتمعاتهم لحماية أنفسهم من أي تجاوز أو تسلط أو عسف من الحكام أو غيرهم، وهذه الحريات الوضعية كلها خارجية تتغيا إبعاد أنواع من العوائق والعوارض والقيود الخارجية، ولا شأن لها بداخل الإنسان، ثم إن هذه الحريات محكومة بفكرة النظام العام لا تتعداه، والنظام العام هو محصلة القيم التي تعارف عليها المجتمع وفي مقدمتها قيم الأديان .. فليست الحريات حرباً على الدين ولا انتقاصا منه أو مصادرة له أو للتدين.
بل إن الذي يتغلغل إلى تصور الإسلام للمعنى الكلي الذي تشير إليه كلمة الحرية في العصر الحديث، يجد أنه أكثر فهما وعمقا واعتناقا لقيمة هذا المعنى ومكانته.. ذلك أن مشكلة الحرية ليست عند التأمل مشكلة سياسية أو اقتصادية بقدر ما هي مشكلة عاطفية عقلية، فهي لا توجد إذا كنا جميعا -حاكمين ومحكومين- متفقين على الصواب والخطأ، وفي الرغبات وفهمها وضرورة الاختيار بينها وتنظيم كيفية إشباعها، ووفقا لمعيار عادل ثابت للكرامة الشخصية لا يتأثر بقوة الفرد وضعفه، أو بقدر أهميته أو مصلحته، ففكرة الكرامة متداخلة تداخلا عميقا في ميدان المشاعر والعواطف أكثر منها في ميدان المعقولات والمصالح، فالحرية جذورها في منطقة الشعور، وفي مجال القيم التي يزن بها الإنسان نفسه في عينه وفي عيون الآخرين متشبثا بفكرة المساواة.
والواقع أن المستوى الكريم للحياة تصور منتزع من عناصر مادية يحمل معنى التميز، فالحياة الكريمة بغض النظر عن الشعارات والنظريات، هي في عصرنا حياة مادية مادام المال هو القيمة الاجتماعية الرئيسية التي يتركز عليها اهتمام الناس، وما دام وضع الإنسان الاقتصادي في المجتمع هو الذي يربط بين نصيبه الفعلي من احترام نفسه واحترام المجتمع له، وإشكالية أخرى، أن صار صعبا على الإنسان العادي في زماننا أن يشعر بالأهمية أو الإنصاف وهو منفرد وبعيد عن التكتل، في حزب أو نقابة أو ما شابه !
إذن فالحرية التي يحتاجها العصر، ويفلتها من يده باستمرار، هي التحرير من استبداد واستعباد رغباتنا ومطامعنا التي تدعو القوي لإهمال الضعيف، والحاكم للاستقواء بسلطته على المحكوم، والطامعين للتغول بمطامعهم أو استبدادهم على البسطاء.
وما من ظالم إلاَّ وأداته إنسان تستعبده هو الآخر مطامعه وشهواته، ولا يمكن لأي استبداد أو طغيان اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي أن يوجد.. إلاَّ إذا كان الناس قد فقدوا حريتهم الداخلية!
والشعور بالحرية الداخلية، هذا الشعور المليء بالوقـار والطمأنينة، منبعه وواحته الدين، ونرى بهذا المعنى الكلى كيف أن منظومة دين كالإسلام، توفر عناصر وضوابط وروح ومعنى الحرية، فالمسلم الصادق يكون حرا وهو مسجون، وحرا وهو رقيق، وحرا وهو فقير.. وهكذا رأينا بلال وسلمان الفارسي وصهيب الرومي وغيرهم، قلوبهم الملآنة بالحرية هي التي تجاوزوا بها الفقر وتحرروا من نير العبودية وآمنوا بقلوب معمورة بحرية أعمق وأشد من حرية الكثيرين من الطلقاء والسادة والأغنياء وذوي الجاه والزعماء.
هذه الحرية الداخلية التي يوقرها الدين ليست بالشيء الهين، فلا يقف دونها حائل مادام المرء على دينه لا يفارقه ولا يخرج عن مبادئه وأحكامه، فالدين أخوّة في الله أبدية، في الدنيا وفي الآخرة، تجمع المؤمنين أحرارًا بقلوب عامرة بالهداية والإيمان الذي يربط على هذه القلوب بحبل مستقيم تستقيم به الحياة بين جميع الأحياء.