الدولة أولاً … أم المواطن أولاً؟!!

بقلم أ/ محمد شعبان

هذا السؤال الجدلي غالباً ما يسيطر على تفكير المهتمين بالشأن العام؛ أيهما أسبق في مجالات الحماية والاهتمام والوضع في قائمة الأولويات، الدولة أم المواطن؟!

فهناك من يقول المواطن في المقام الأول  لأن المواطن هو عماد الدولة، وركنها الركين وبدونه لا تقوم الدولة ولا تكتسب الاعتراف الدولي، وعلى كتفه تبني الدولة مجدها وعزها؛ فالمواطن هو الذي يلبي احتياجات الدولة من خلال مشاركته في تحمل الأعباء العامة، وهو الذي يبني ويعمر ويزرع ويصنع، ولولا المواطن فلا يسوغ الحديث عن الدولة.

وهناك من يقول أن الدولة قبل المواطن؛ فهي أولاً، لأن مواطن بلا دولة كالجسد بلا روح، ولن تكون هناك حقوق للمواطن معترف به بها إلا أذا كانت هناك دولة تعترف له بحق ممارسة هذه الحقوق على أرضها وفق دستورها وقانونها، وبالتالي فالدولة هي حارس المواطن، وأي مساس بالدولة أو بأي ركن من أركانها من شأنه أن يهدد حقوق المواطن وحرياته بل وحياته.

وفي الحقيقة لا مجال على الأطلاق لركوب متن الشطط بترجيح اتجاه على آخر، لأن كلا الاتجاهين مغالي في تقديره؛ فالحقيقة أن الدولة والمواطن قسيمان لا ينفصلان، وهما وجهان لعملة واحدة، فلا يتصور دولة من غير أركان ثلاثة رئيسيه وهم: “إقليم” و”شعب” و”سلطة سياسية للحكم”.

والسلطة السياسية بمثابة “رمانة الميزان في الدولة” التي تحفظ التوازن بين كفتيه (الشعب والإقليم)؛ ففي الوقت الذي يقع فيه على عاتقها مسئولية المحافظة على استقلال الإقليم ووحدة وسلامة أراضيه، يقع على عاتقها كذلك مهمة صيانة مصالح الشعب وحماية حقوقه وحرياته وعدم التفريط فيها على نحو غير مبرر. لذلك فالسلطة السياسية راعية لخط فاصل يمنع تغول أحد المصلحتين (الإقليم) و(الشعب)  على الأخرى، وهي إذ تباشر هذه المسئولية فإنها تسعى إلى تحقيق غاية كبرى هي بالأساس (حماية حقوق المواطن في التراب الوطني وفي حقوقه وحرياته) لذلك فإنها تقبض وتبسط، وتمنح وتمنع، في هذا النطاق دون أن تتخطاه، وترتبط مشروعية قراراتها سواء على المستوى الوطني أو الدولي بمدى مراعاتها لهذا الخط الفاصل وعدم مجاوزة الحدود المشروعة في الممارسة السياسية.

لذلك فلا مجال للإفراط في حسن النية عند إقرار الحقوق، على نحو يخل بضمانات السيادة الوطنية، وفي ذات الوقت لا مجال للإفراط في تنظيم الحقوق على نحو يحد أو ينتقص منها أو يلغيها  بحجة الحفاظ السيادة الوطنية أو المصالح القومية، وإنما ينبغي دائما مراعاة التوازن بين المصلحتين، فلا تطغي إحداهما على الأخرى لأن كلا الأمرين يجافي المصلحة العامة وهي (حماية حقوق المواطن في التراب الوطني وفي حقوقه وحرياته)، مع مراعاة التناسب بين الغاية والوسيلة، فمشروعية الغاية مرهونة بمشروعية الوسيلة، وبهذا المعيار (التناسب) يمكن تقدير مشروعية تدخلات السلطة العامة في مجال الحقوق والحريات الأساسية.

والضامن لمعيار التناسب هي رقابة القضاء. فالرقابة القضائية على عمل السلطة العامة هي التي تكفل رد أي شطط أوتغول من أي من المصلحتين على الأخرى، وهذا الرقابة يباشرها القضاء في شتى المجالات؛ فالقضاء الدستوري يباشرها على أعمال السلطة التشريعية في إطار منع ومكافحة الانحراف التشريعي، كما يراقبها القضاء الإداري على أعمال الإدارة في إطار منع ومكافحة الانحراف في استعمال السلطة التنفيذية. بل إن القضاء يباشر هذه الرقابة على نفسه، وذلك من خلال مراقبة المحاكم العليا لأعمال المحاكم في الدرجات الدنيا، وهي بذلك تضمن مراعاة عدم الغلو كذلك في استعمال القضاة لسلطة التقدير سواء في وزن الادلة أو في تحصيل الواقع والعسف بحقوق الخصوم أو في إنزال حكم القانون على هذا الواقع، وكثيراً ما طبقت المحاكم معيار التناسب في أحكامها ورسخته سيما في مجال (الجزاءات) بما استقرت عليه من أن “الجزاء يجب ألا يكون مسرفا في الشدة ولا منعنا في الرأفة لأن كلا الأمرين يجافي المصلحة العامة”.

وبناء على ذلك يمكن الخلوص إلى أن القضاء هو الضمانة الحقيقية التي تكفل عدم خروج السلطة السياسية عن معيار التناسب عند تعاملها مع القضايا التي توازن فيها وترجح بين مصلحة الدولة كشخص وبين مصلحة المواطنين فيها، وهو بذلك يباشر رقابته إما بالإقرار للتصرفات التي تتخذها هذه السلطة أو برفضها لمجافاتها لمبدأ التناسب، وهو إذ يفعل ذلك فإنه ينبغي أن يراعي مبدأي الموازنة والتناسب (وفقا للتقدير الذي يقدره انطلاقاً من عقيدة يكونها بنفسه وبعيداً عن أية مؤثرات على ضوء واقع يستفرغ جهده في تحصيله والإحاطة به عن طريق القضاة أنفسهم  ليستنى لهؤلاء استنباط ملامح الحقيقة التي ستصدر أحكامهم أو قراراتهم بناء عليها، دون أن مشاركة من غيرهم في تقدير هذا الواقع واستنباط ملامحه الحقيقة لا المزعومة، ولعل هذا ما حدا بالمشرع الدستوري في الكثير من الدساتير المقارنة إلى اعتماد المبدأ الراسخ والذي يؤكد أن القضاة هم وحدهم الذين لا سلطان عليهم لغير القانون وهم بموحب ذلك يحكمون وفق ضمائرهم لا وفق أهوائهم أو أهواء غيرهم.

زر الذهاب إلى الأعلى