الدعاء على المتوفَّى

بقلم الدكتور/ أشرف نجيب الدريني

هل يجوز لحيّ أن يسب ميتًا، أو يدعو عليه بحرمانه من الرحمة ويتمنى له العذاب الأليم؟ وهل يظل القول مباحًا إن وجّه إلى من لا يستطيع الدفاع عن نفسه أو ردّ الشتيمة؟ وهل يمكن للقانون أن يُؤسس حماية بعد الوفاة، لمن انقطعت صلته بالدنيا، لكن ظلت له سيرة أو مكانة أو أبناء يحملون اسمه؟ وإذا كانت العدالة الجنائية تنطفئ عند القبر، فهل يصح إيقاظها إذا أُهينت كرامة صاحب القبر؟ أم أن هذا “ضربٌ/درب” من المبالغة في تقييد الألسنة، وتغليب للاعتبارات العاطفية على المبادئ القانونية المستقرة؟

في جوهر فلسفة العقاب، لا يعاقب القانون على المشاعر المجردة، بل على الأفعال المؤذية التي تُخلّ بالنظام العام أو تمس بكرامة الإنسان في حياته أو بعد مماته. وحين يطلق أحدهم لسانه سبًا للميت، مقرونًا بأدعيات قاسية محرومة من الرحمة، ودعوات صريحة بالعذاب، لا يعود الأمر تعبيرًا عن رأي، بل يدخل في حيز “الهتك المعنوي” – كل فعل أو قول يمس كرامة الإنسان أو سمعته أو حرمته النفسية أو الاجتماعية، دون أن ينطوي على اعتداء جسدي- لحرمة شخص كان له في الحياة مقام، وله بعد الوفاة حرمة لا تسقط.

وإذا كان الميت ذاته قد انقطعت عنه “المسؤولية والذمة”، فإن القانون لا يعاقب من أجله، بل حمايةً للمجتمع من لغة العنف الرمزي، وصونًا لمشاعر ذويه، ومنعًا لانتشار ثقافة التشفي والتنكيل اللفظي التي تهدد اللحمة الأخلاقية والاحترام المتبادل في المجتمع. فالقذف والسب في القانون لا يقتصران على الأحياء فقط، بل قد يمتدان إلى الأموات متى ترتب على ذلك ضرر لورثتهم أو ذويهم، أو متى مسّ ذلك السلوك مكانة رمزية للشخص، وهو ما نصت عليه بعض التشريعات صراحة، واعتنقته محاكم في اجتهاداتها عندما رأت أن السب العلني للميت يُعد مساسًا بشعور الأحياء المرتبطين به، ويستوجب المساءلة.

تمني العذاب الأليم لشخص راحل، والدعاء عليه بحرمانه من الرحمة، لا يتوقف أثره عند الحيز الديني أو الأخلاقي، بل يتعداه في حال الجهر والعلانية إلى دائرة المسؤولية الجنائية إذا اقترن بالسب أو التشهير أو الإيذاء العمدي لمشاعر من لهم به صلة. وهذا لا يُعد انتصارًا للميت، بل وقوفًا مع الحياء العام، واحترامًا لمشاعر الغير، ومنعًا لتحول منصات التعبير إلى منابر لاغتيال السمعة بعد الموت، دون أن يجد الميت صوتًا يدافع عنه.

فالقانون وإن كان لا يعاقب على الدعاء المجرد، إلا أنه لا يقف مكتوف الأيدي أمام السب الصريح المقترن بتمني الإيذاء الأخروي، إذا كان ذلك يُبث على الملأ، ويشكل تحقيرًا علنيًا لمكانة الميت. وقد تقضي المحاكم بوجود جريمة سبّ ميت، متى ثبت أن السلوك قد أضر بسمعة الميت بين الناس، أو بكرامة أسرته، أو أحدث فتنة عامة بين طوائف المجتمع.

وإذا كانت حرية الرأي مكفولة، فليست الحرية رخصة لهتك الأعراض ولا إباحة للنيل من كرامات دفنها التراب. وليس في الدعاء بعدم الرحمة إلا إفلاس أخلاقي، وقد يتحول هذا الإفلاس إلى جريمة إذا تجاوز القول حدود المشاعر، وتحول إلى حملة لفظية تؤجج الكراهية وتثير الخصومة وتفتح أبواب الفتنة.

إن العدالة الجنائية، وإن كانت لا تبعث الموتى، فإنها تحمي الذاكرة من التشويه، وتصون الموت من التحقير، وتدافع عن الحق في “الرثاء الصامت” بدلًا من “العداء الصاخب”. فللموتى علينا حرمة، وللأحياء حق في ألّا يُجرّحوا في موتاهم. وبين الكلمة والدعاء، قد تنشأ جريمة، لا تُقاس بمدى فظاظة القول فحسب، بل بقدر ما فيه من قصد للإهانة والإيذاء. هكذا يُجيب القانون: لا يُحاكم الناس على دعائهم، لكن يُسائلهم إذا ما اتخذوا من الدعاء سلاحًا للسب، ومن الحقد أداة للتحقير، ومن العلانية منبرًا للهتك المعنوي لمن لا يملكون الدفاع. والله من وراء القصد.

زر الذهاب إلى الأعلى