الدستورية تنتصر للواجبات الزوجية
مقال للدكتور أحمد عبد الظاهر- أستاذ القانون الجنائي بجامعة القاهرة
اشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي بالجدل الدائر حول حديث الدكتورة شيرين غالب، نقيب أطباء القاهرة، في حفل تخرج دفعة جديدة من الطبيبات خريجات كلية طب الأزهر، قائلة: «أنت، بيتك، ثم بيتك، أولادك وبعدين مهنتك، أوعى حد يقول لك مهنتك قبل ولادك أوعي، حضرتك لو قعدتي في البيت فيه مليون طبيب بره هيعالج، لكن لو سبتي ولادك ما لهمش غير أم واحدة هو إنت». وردت عليها الدكتورة مايا مرسي، رئيسة المجلس القومي للمرأة، قائلة: «سيدتي الفاضلة، الطبيبة الناجحة والمتميزة تنجح في بيتها وأسرتها وعملها.. سيدتي الفاضلة اختيار مهنة الطب بكل تخصصاتها لا تعني أن الطبيبة ستهمل أسرتها.. خانك التعبير وخانك التوقيت». وجدير بالذكر في هذا الصدد أن حديث نقيبة أطباء القاهرة يعود إلى سنة 2021م، ومر عليه عام تقريباً، ومع ذلك لم يكتب له الانتشار والذيوع سوى مؤخراً، من خلال النشر على وسائل التواصل الاجتماعي.
وتعليقاً على هذا الحديث، يرى بعض الكتاب أن تصريح الدكتورة شيرين غالب ونصيحتها للطبيبات الخريجات «في منتهى الرجعية ويتحدث إلى الطبيبات وكأنهن (سبايا أو جواري) في عصر الحريم! بالطبع البيت مهم. ولكن من قال إنه من المستحيل أن تجمع بين الإتقان والعناية بالبيت وفى نفس الوقت العناية بالتفوق في مهنتك! هناك طبيبات في تخصصات مختلفة صعبة، حسب تصنيف الأستاذة، وأولادهن في منتهى النجاح المهني والاجتماعي، هن أمهات عظيمات وطبيبات عظيمات كذلك، كل طبيبة منهن، وهي نائب في بداية حياتها، كانت تحمل على كاهلها قسماً من أقسام الباطنة مثلاً أو جراحة العيون، وتظل الـ 24 ساعة في القسم» (خالد منتصر، نصيحة للطبيبات، جريدة الوطن، الجمعة الموافق 26 أغسطس 2022م).
وفي المقابل، اعتبر البعض أن الدكتورة شيرين غالب «عظيمة من مصر»، مبرراً ذلك بأنها حقّقت المعادلة الصعبة في النجاح والتميّز المهني والإداري والاجتماعي والشأن العام، والأهم أنها زوجة وأم عظيمة لزوج وأبناء ناجحين وتتمتّع بأدب جم وتواضع رفيع وخُلق كبير (أحمد إبراهيم، شيرين غالب.. عظيمة من مصر، جريدة الوطن، نافذة رأي، الاثنين الموافق 29 أغسطس 2022م). وللتدليل على نجاحها المهني، يكفي أن نذكر لها حصولها على الماجستير والدكتوراه في الطب الشرعي والسموم، وأنها تشغل وظيفة أستاذ الطب الشرعي والسموم بكلية طب القصر العيني، وأنها المرأة الوحيدة في الوطن العربي، التي منحتها الكلية الإنجليزية زمالة الطب الشرعي، وتم تكريمها من دول كثيرة، منها ألمانيا والهند وإندونيسيا وهولندا كما كرّمها رئيس تايوان. وكانت وكيل نقابة أطباء القاهرة، ثم أصبحت أول امرأة نقيب في تاريخ نقابة الأطباء المصرية بعد معركة انتخابية شرسة حازت فيها على أصوات الرجال قبل النساء، وهي أيضاً أمين عام اتحاد الأطباء الشرعيين العرب، وعضو لجنة الصحة بالمجلس القومي للمرأة.
وبالتمعن في تصريح الدكتورة شيرين غالب، يبدو أنها توجه النصيحة للخريجات بأن لا يكون عملهن على حساب بيوتهن وأولادهن. وحسب فهمي للتصريح، فإن نقيبة أطباء القاهرة لا تدعو الخريجات إلى إهمال مهنتهن، وإنما تدعوهن فحسب إلى ألا يكون الاهتمام بالنجاح المهني على حساب الأسرة والأولاد، وإنما ينبغي الاجتهاد قدر الإمكان في التوفيق بينهما، وأن تكون مصلحة الأسرة حاضرة دائماً في أذهانهن. والواقع أن ذلك هو ما أكد عليه المشرع الدستوري ذاته، حيث تنص المادة العاشرة من الدستور على أن «الأسرة أساس المجتمع، قوامها الدين والأخلاق والوطنية، وتحرص الدولة على تماسكها واستقرارها وترسيخ قيمها». وبدورها، تنص المادة الحادية عشرة الفقرة الثالثة من الدستور على أن «تلتزم الدولة بحماية المرأة ضد كل أشكال العنف، وتكفل تمكين المرأة من التوفيق بين واجبات الأسرة ومتطلبات العمل». وما قالت به الدكتورة شيرين غالب سبق أن أكدت عليه المحكمة الدستورية العليا في أحد أحكامها، حيث تقول: «إن المشرع قد وازن بالفقرة المطعون عليها – وفي إطار دائرة الاجتهاد – بين حق الزوج في الاحتباس الكامل، وبين صورة من الاحتباس يرتضيها وتتحقق بها في الجملة مقاصد النكاح، فأجاز لكل امرأة أن تعمل بإذن زوجها سواء أكان هذا الإذن صريحاً أم ضمنياً، فإذا أذنها بالعمل، وكان عملها مشروعاً، فإن مضيها فيه يكون حقاً مكفولاً لها، فلا يمنعها زوجها منه، أو يردها عنه، بعد أن رخص لها به، إلا أن يقوم الدليل بعد مباشرتها لهذا العمل على إساءتها استعمال الحق فيه انحرافاً عن الأغراض التي يبتغيها، أو كان أداؤها لعملها منافياً لمصلحة أسرتها. ولا مخالفة في ذلك للدستور، وذلك لأمرين، أولهما: أن مصلحة الأسرة والحق في العمل لا يتوازيان، بل ينبغي تغليبها وتقديمها على هذا الحق، فلا يكون إلا مسخراً لها يخدمها ويطور بنيانها، فإذا قصر عن متطلباتها أو نقضها، كان حرثاً في البحر لا يُصلح للأسرة حياتها أو يثريها، بل يفسد دروبها ويمزق روابطها ويقوض أمنها واستقرارها ولا يجوز بالتالي أن يعطل عمل المرأة أمومتها، ولا أن يدل على انقطاعها لذاتها ومطالبها وأهوائها، ولا أن يباعد – بوجه عام – بينها وبين واجباتها قبل أسرتها، بل إن كمال دينها يقتضيها أن يكون إيثارها لبيتها على ما عداه تعبيراً عن فهمها الحق لجوهر عقيدتها وما النساء إلا شقائق الرجال، ولا تقوم الحياة بينهما على التناضل، بل يكون التعاون مِلاكُها وليس من صوره تخليها عن بيتها لتباشر إعمالاً تستنفد وقتها أو تنوء بها أو لا تلتئم وطبيعتها، بل ينبغي أن يكون عملها نافعاً لمجتمعها وغير ضار ببيتها، تقديراً بأن الزوجين شريكان يتقاسمان الجهد ليقيما حياتهما على سوائها بالغين بها قدر الإمكان، حظها من الكمال، فلا يشوهها أحدهما ثانيهما: أن إساءتها استعمال الحق في العمل، ينقض من جانبها الأغراض التي يتوخاها، ويعتبر خطأ منها ناشئاً على الأخص من اتجاه قصدها إلى الإضرار بالغير، أو لتحقيق مصلحة محدودة أهميتها، أو مصلحة لا اعتبار لها، أو ترجحها الأضرار التي تقارنها رجحاناً كبيراً أو تساويها، ومن ثم يكون معيار سوء استعمال الحق موضوعياً لا ذاتياً ويفترض ذلك بالضرورة – وفى نطاق الدعوى الماثلة – أن يكون سوء استعمال المرأة لحقها في العمل، انحرافاً بهذا الحق عن تلك المصالح التي تصون لأسرتها ترابطها ووحدتها (يراجع: حكم المحكمة الدستورية العليا، 3 مايو سنة 1997م، القضية رقم 18 لسنة 14 قضائية دستورية). وجدير بالذكر هنا أن هذا الحكم قد صدر برئاسة المستشار الدكتور عوض محمد عوض المر، رئيس المحكمة الدستورية العليا الأسبق، وكان أحد أعضاء هيئة المحكمة التي أصدرت الحكم هو المستشار الجليل عدلي منصور، رئيس المحكمة الدستورية العليا الأسبق ورئيس الجمهورية المؤقت الذي تولى رئاسة الدولة لمدة عام واحد، مباشرة بعد ثورة الثلاثين من يونيو 2013م. وكان المستشار الدكتور حنفي الجبالي، رئيس مجلس النواب الحالي ورئيس المحكمة الدستورية العليا الأسبق، هو رئيس هيئة المفوضين بالمحكمة الدستورية العليا آنذاك، وكان حاضراً بهذه الصفة في جلسة النطق بالحكم.