الخيال في القانون الجنائي

مقال بقلم الدكتور/ أشرف نجيب الدريني

يُعد القانون الجنائي أحد أبرز فروع القانون التي تتعامل مع تحديد الجرائم، والعقوبات، والمسئولية الجنائية. وبينما تتمثل الوظيفة التقليدية للقانون الجنائي في الحفاظ على النظام الاجتماعي من خلال معاقبة الأفعال الإجرامية، فإن المتغيرات السريعة في المجتمع، مثل التطور التكنولوجي والتحولات الثقافية والاجتماعية، تتطلب منا التفكير في كيفية تطوير هذا النظام لمواكبة هذه التغيرات. هنا يظهر دور “الخيال” ليس بالمعنى التقليدي للأدب الخيالي أو الفنتازيا، بل كأداة قانونية تساعد في استشراف المستقبل وتقديم حلول غير تقليدية للتحديات المستقبلية.

مع تسارع التطور التكنولوجي، ظهرت أنواع جديدة من الجرائم لم تكن موجودة في الماضي، مثل الجرائم الإلكترونية واستخدام الذكاء الاصطناعي في الأفعال الإجرامية. على سبيل المثال، يمكن أن يتعرض الفرد لعملية ابتزاز باستخدام تكنولوجيا متقدمة بواسطة تقنية “التزييف العميق” (Deep Fake)، التي تعتمد على التلاعب بالفيديوهات أو الصوتيات. هنا، يجب أن يُعيد المشرّع التفكير في التعريف التقليدي للجريمة. هذا لا يعني فقط إضافة أنواع جديدة من الجرائم إلى التشريعات الجنائية، بل يتطلب أيضًا التفكير في كيفية إثبات الجرائم المعقدة التي لا تكون واضحة بسهولة. في هذا السياق، يجب أن تكون القوانين مرنة بما يكفي لمواكبة التطورات التقنية مثل استخدام الذكاء الاصطناعي في ارتكاب الجرائم. يمكن تصور قوانين خاصة لتحديد المسئولية الجنائية في الحالات التي تشمل الأنظمة الذكية.

كما أن الخيال يفرز مسئولية جنائية جديدة في ضوء التأثيرات النفسية والتكنولوجية، تتجاوز المسئولية الجنائية التقليدية التي تقوم على النية الإجرامية، وتطرح أسئلة جديدة حول تأثير العوامل النفسية والتكنولوجية على الجاني. في الواقع، قد يتعرض الفرد لتأثيرات نفسية أو جسدية تؤثر على إرادته، مثل التأثيرات الناتجة عن الأدوية أو الضغوط النفسية أو حتى التلاعب العقلي باستخدام تقنيات متقدمة، أو زرع شريحة في دماغ الإنسان، كما أعلن إيلون ماسك عن ذلك سابقًا. في هذا السياق، يجب على المشرّع تطوير آليات جديدة لتحديد المسئولية الجنائية، بحيث يأخذ في الحسبان هذه العوامل المؤثرة.
يتطلب الأمر تقديم حلول ملموسة من خلال تعديلات في التشريعات الجنائية تشمل توفير حماية قانونية ضد التلاعب العقلي أو التأثيرات النفسية التي قد تؤثر على إرادة الفرد. الخيال في هذا السياق يساعد على تصور أنواع جديدة من المسئولية الجنائية التي تأخذ في الاعتبار هذه العوامل الجديدة. قد تتجاوز الفكرة التقليدية القائلة بأن “الفاعل هو المسئول عن الجريمة” لتطرح إمكانية وجود مسئوليات أخرى، مثل المساءلة الجنائية للأطراف التي تسببت في تلك التأثيرات النفسية أو البيئة التي أدت إلى ارتكاب الجريمة.

العقوبات الجنائية من الردع إلى الإصلاح، عند الحديث عن العقوبات، يكمن السؤال الأساسي حول ما إذا كان الهدف من العقوبة هو الردع أم الإصلاح. كانت العقوبات التقليدية، مثل السجن، تهدف إلى ردع الأفراد عن ارتكاب الجرائم، ولكن في ظل الجرائم الحديثة والمعقدة، هل يمكن أن تكون هذه العقوبات فعّالة؟ تبرز الحاجة إلى التفكير في “العقوبات الذكية” التي تعتمد على التكنولوجيا لمراقبة الجاني وتوجيهه نحو إعادة التأهيل. يمكن أن تشمل هذه العقوبات استخدام أنظمة مراقبة متقدمة تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتحديد الأنماط السلوكية، أو توفير برامج تأهيلية ونفسية مُصممة خصيصًا لكل حالة على حدة. بالإضافة إلى ذلك، يجب على المشرّع وضع أطر قانونية تضمن ألا تتحول العقوبات إلى شكل من أشكال الرقابة المفرطة التي تمس الحريات الشخصية.

التعامل مع الجرائم المستقبلية، الذكاء الاصطناعي كفاعل إجرامي؟ من التحديات الجديدة التي قد يواجهها القانون الجنائي هو إمكانية ارتكاب الذكاء الاصطناعي للجرائم. فالتقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي يمكن أن تُستخدم لارتكاب جرائم مثل اختراق الأنظمة الأمنية أو اتخاذ قرارات تؤدي إلى أضرار جسيمة للمجتمع. السؤال المطروح هو: من يتحمل المسئولية في مثل هذه الحالات؟ هل يُعاقب الشخص الذي صمم النظام الذكي أم أن هناك حاجة لتطوير قوانين جديدة لمحاسبة الأنظمة الذكية ذاتها؟ هل يمكن محاكمة خوارزميات الذكاء الاصطناعي كما لو كانت كائنات بشرية؟! هذه التساؤلات تتطلب من المشرّع التفكير في حلول قانونية جديدة تواكب هذه المتغيرات، مثل إيجاد آليات قانونية لمحاسبة خوارزميات الذكاء الاصطناعي وتطوير قوانين تحكم استخدامها في الأنظمة الجنائية.

الموازنة بين الحقوق الفردية والأمن العام في عصر المراقبة، في الوقت الذي تشهد فيه أنظمة المراقبة والتقنيات الرقمية تطورًا كبيرًا، يبرز السؤال حول كيفية موازنة حماية حقوق الأفراد مع الحاجة إلى تعزيز الأمن العام. تتيح التقنيات الحديثة مثل المراقبة الرقمية للسلطات إمكانية الكشف عن الجرائم والحد منها، لكن في المقابل، قد يؤدي استخدام هذه الأدوات إلى انتهاك الخصوصية وحقوق الإنسان. وبالتالي، يجب أن يكون هناك تشريع يحدد بدقة كيفية استخدام هذه الأدوات مع ضمان عدم المساس بالحريات الفردية. على سبيل المثال، يمكن وضع قيود قانونية صارمة على جمع البيانات الشخصية وضمان رقابة مستمرة على كيفية استخدامها من قبل الجهات الحكومية.

تعزيز العدالة الجنائية في مواجهة التحديات العالمية، أصبحت الجرائم العابرة للحدود جزءًا من التحديات القانونية الكبرى. الجرائم مثل الاتجار بالبشر، والجرائم البيئية، والتلوث، وتهريب المخدرات لا تقتصر على حدود الدول، بل تمتد عبر القارات. كيف يمكن للقانون الجنائي أن يعالج هذه الجرائم بفعالية في ظل الانقسامات السياسية والاقتصادية بين الدول الخيال القانوني هنا يُمكن أن يساعد في التفكير في آليات جديدة للتعاون بين الدول لتحديد المسؤوليات الجنائية في الجرائم العابرة للحدود. يمكن أن يشمل ذلك تبني تشريعات موحدة عبر الدول لمكافحة هذه الجرائم، وتطوير آليات تنسيق دولية تضمن محاكمة المجرمين حتى لو كانوا قد ارتكبوا الجرائم في دولة أخرى.

في الختام، لا يُمكن تجاهل دور الخيال القانوني في مواجهة تحديات المستقبل في القانون الجنائي. ولا يُعتبر الخيال مجرد تخيل لسيناريوهات بعيدة، بل هو أداة ضرورية لفهم وتوقع المستقبل وتقديم حلول قانونية مبتكرة. من خلال إعادة تقييم المفاهيم التقليدية للجرائم والعقوبات والمسؤولية الجنائية، يمكن للنظام القانوني أن يتطور ليظل قادرًا على تحقيق العدالة في عالم سريع التغيير.

زر الذهاب إلى الأعلى