الخلافة ليست من أصول الحكم ! (3)

الخلافة ليست من أصول الحكم ! (3)

نشر بجريدة الأهرام الاثنين 1/2/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

ونحن لا نسبق الأحداث، حين نقرر أن مسمى «الخليفة» إنما كان اجتهادًا أسبغ على «الصديق» هذا المسمى، ولم يكن ذلك إسباغًا لصفة الخلافة على الخلافة في «النبوة»، فلا أحد يخلف الرسول فيها، وإنما كان المقصود بها الخلافة في أمور الدنيا وإدارة الأحوال.

ولم يختلف أحد على ذلك، لهذا فإن عمر بن الخطاب أبدى حينما تولى أن الأمر سوف يطول إذا سمى خليفة الخليفة، فكان الاستقرار على مسمى «أمير المؤمنين». وهو وإن زاحمه في لغة الناس تعبير الخلافة، إلاَّ أنه بقي وصفًا للحاكم على مدار السنين.

ولم يتحدث الصديق يوم بويع، ولا بعده، بأنه يتوسد حكم أو إدارة المجتمع، بأمر أو بتوصية من الرسول عليه الصلاة والسلام، بل كان يقول ـ ومثله الفاروق من بعده ـ إنه قد تولى أمر المسلمين وليس بخيرهم، فإن وجدوا فيه استقامة أعانوه، وإذا انحرف عن الجادة ردّوه وقوموه.

وآيات القرآن، والسنة النبوية، شاهدان على هذه الحقيقة من قبل استخلاصها من السيرة.

ولكن يبقى السؤال، هل حدد القرآن شكلاً معينًا بذاته لنظام الحكم، لا يكون الحكم إلاَّ به وعلى أساسه، أم أنه أورد المبادئ الحاكمة، تاركًا شكل الحكومة ونظامها إلى واقع الحياة الذي يتغير بتغير الظروف واعتبارات الزمان والمكان.

الواضح من قراءة القرآن الحكيم، إنه قد أورد آيات واضحة الدلالة، حددت مبادئ يلتزمها الحكم والحاكم دون تعليق ذلك على شكل نظام الحكم، بل ويلتزمها كل راعٍ أو مسئول في الإطار الذي يتولاه أو ينهض عليه أو يقوم فيه بوظيفة أو بدور.

يقول الحكم العدل عز وجل:

« وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ » ( الشورى 38 )

« وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ » ( آل عمران 159 )

« وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ » ( الشعراء 215 )

« إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ » ( الحجرات 10 )

« إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ » ( الكهف 110 )

« يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ » ( آل عمران 64 )

« وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ » ( ق 45 )

« فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ » ( الغاشية 21، 22 )

« وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ » ( النساء 58 )

ومن هذه الآيات ما يصف المؤمنين أو يخاطبهم عامة، ومنها ما يتجه بخطابه إلى الرسول عليه الصلاة والسلام آمرًا أو موجهًا أو موصيًا.

فمن صفات المؤمنين المستقاة من الآيات، أنهم إخوة، وأن أمرهم شورى بينهم، وأن العدل هو أساس الحكم فيما بينهم، وأن المجتمع الإسلامي يتسع لأهل الكتاب بالدعوة إلى كلمة سواء بينهم وبين المسلمين ألاَّ يعبدوا جميعًا إلاَّ الله، وألاَّ يتخذ بعضهم بعضًا أربابًا من دون الله…

والرسول عليه الصلاة والسلام، مأمور من ربه سبحانه وتعالى أن يخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين، وأن يشاورهم في الأمر، وخطابه لهم قوامه أنه بشر مثلهم يوحى إليه، وأن إلهه وإله الجميع واحد، وما هو عليهم بجبار، وليس عليهم بمسيطر، وإنما خطابه إليهم بالحكمة والموعظة الحسنة..

ومن المؤكد أن القرآن الكريم تضمن مبادئ يجب الالتزام بها في الحكم، وإن كان لم يقدم تصورًا تامًا أو صورة شاملة للحكومة، ومن هذه المبادئ الشورى، وعدم الاستبداد أو التجبر، وخفض الجناح للتابعين، والأخوة بين المؤمنين، والعدل في الحكم بين الناس، وتحمل التبعة، والتعاون في البر والتقوى لا في الإثم والعدوان، والأمانة في الحكم وفي غير الحكم، وعدم كنز الأموال، والتطهر بالزكاة والصدقة. هذه مبادئ وردت نصًّا في آيات القرآن الحكيم، ولكنها مبادئ عامة يجب التزامها، فلم يورد مثلاً تفاصيل للشورى، وإنما دعا دعوة عامة للشورى والمشاورة دون أن يحدد لها أسلوبًا محددًا، ولم يورد القرآن شكلاً محددًا يمكن أن يقال إنه قدم به «حكومة إسلامية» على شكل معين، وإن كان قد قدم المبادئ التي يتعين على كل أنواع وأشكال الحكم والحكومات أن تلتزم بها.

وبيان القرآن الحكيم واضح جلى، فهو لم يحدد شكلاً ولا نظامًا معينًا للحكم، وإنما أورد مبادئ يلتزمها كل حكم أيًّا كان شكله، محكومًا بهذه المبادئ الواضحة الجلية، والمؤكد أن الرسول عليه الصلاة والسلام لاقى ربه دون أن يستخلف أحدًا بعينه، ولو استخلف لما استطاع أحدٌ من أصحابه ومن المؤمنين به أن يخالف ما أمر به، ولكان الأولى بعمر وبأبي عبيدة أن يلتزما بمن استخلفه الرسول عليه الصلاة والسلام، ولكان هذا هو أيضًا شأن أبى بكر نفسه ـ الذي كان عنوانًا للاقتداء بسنة النبي عليه الصلاة والسلام والالتزام بأوامره ونواهيه، ولما بدأ في السقيفة بعرض مبايعة أحد الرجلين عمر أو أبى عبيدة، ولحاجى الأنصار والجميع بمن استخلفه الرسول ــ عليه الصلاة والسلام ــ ولالتزم الجميع بهذا الاستخلاف.

فمن المقطوع به أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يستخلف أحدًا بعينه ولا حَدَّد نظامًا معينًا يلتزمه المسلمون في الحكم، ولا تحدث إليهم بشيء من ذلك، وإنما اجتهد المسلمون ـ أصابوا أم أخطأوا ـ في اختيار نظام يديرون به شئونهم على هدى المبادئ القرآنية الواضحة قطعية الدلالة وسنة الرسول ــ عليه الصلاة والسلام ــ  فيما بينهم.

زر الذهاب إلى الأعلى