الخلافة ليست من أصول الحكم! (2)
الخلافة ليست من أصول الحكم! (2)
نشر بجريدة الأهرام الاثنين 25/1/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
برزت أمامي إذن ـ مفارقة لافتة وأنا أعالج موضوع الدماء التي أُريقت على جدار السلطة على مدى أربعة عشر قرنًا في العالم العربي الإسلامي . المفارقة بين ما جلبته الممارسات السياسية من فواجع، وبين التقدم العلمي والحضاري الذي قطعته الأمة العربية الإسلامية طوال هذا التاريخ. كيف ولماذا هذه العثرات في عالم السياسة، ولماذا كان التقدم في مجال العلم والحضارة؟!
في ظني أن تفسير هذا التفاوت، مرجعه أن الممارسات السياسيَّة أساسها الأغراض وتداخلها المآرب، وأن الممارسات العلمية الحضارية لم تداخلها المآرب والأغراض إلاَّ قليلاً. والأغراض والمآرب هي باب التصادم وانحراف البوصلة؛ لذلك غلبت بعثراتها وتجاوزاتها وتصادماتها وإهداراتها في عالم الحكم والسياسة، فكانت الدماء التي أُريقت في سبيل السلطة، بينما كانت القيم الإسلامية هي الغالبة في الممارسات العلمية والحضارية، فنجت مما وقعت فيه السياسة، وحققت إنجازات كانت منارًا للعالم الذي كان يرين عليه الظلام في القرون الوسطى.
السياسة أغراض ومآرب!
والعلم والعقل والتفكير قيم إسلامية.
السياسة من صنع الناس!
والعلم والعقل والتفكير من روح الله.
وليس هذا حدسًا أو تخمينًا، وإنما يشهد عليه الحال قبل الإسلام، وما صار إليه بعد البعث وما أتى به الإسلام من قيم ومثل، هي التي هيأت لنمو العلوم وبناء الحضارة الإسلامية التي أبهرت ولا تزال تبهر العالم.
وقد دعتني هذه المفارقة إلى تأليف كتاب «الإسلام والعلم والحضارة».
كما دعاني تاريخ التمسح بالخلافة، إلى إمعان النظر في طبيعة وتكييف الخلافة، والتي في وسعنا أن نقرر أنها مقصورة في الواقع على خلافة الراشدين، أما ما تلا ذلك فلا علاقة له بالخلافة بالمعنى الذي ساد في خلافة الراشدين، فضلاً عن أن الخلافة بعامة ليست أصلاً من أصول الحكم في الإسلام.
وعلى خلاف الظن السائد، لم يكن كتاب الشيخ على عبد الرازق الصادر سنة 1925، أول ما كتب عن «الخلافة وأصول الحكم» ـ وإنما كتب من قبله بمئات السنين العلامة بن خلدون في مقدمته المعروفة التي قدم بها لتاريخه المطول، «كتاب العبر وديوان المبتدأ والخير ».
والواقع أنه قد تعدد الذين كتبوا ـ قديمًا وحديثًا ـ عن الخلافة، وعن أصول الحكم في الإسلام، منهم من تشيع للقول بأن الإسلام حدَّدَ « الخلافة » بالذات نظامًا للحكم، ومنهم من رأي كالأستاذ السنهوري أن الخلافة التامة لا تنطبق إلاَّ على خلافة الخلفاء الراشدين، وأن ما بعدهم «خلافة ناقصة» لأنها لم تلتزم مبادئ البيعة والشورى واتخذت الوراثة أساسًا لتداول الحكم أو الملك، ومنهم من رأي أن القرآن الحكيم لم يتحدث بصدد الحكم والحكومة إلاَّ عن مبادئ عامة، ولم يحدد شكلاً أو نظامًا معينًا للحكومة، ومنهم من نفي نفيًا تامًّا أن يكون الإسلام ـ قرآنًا أو سنّة ـ قد تعرض بأي شكل للحكم أو الحكومة ناهيك بالخلافة، ومن هؤلاء وأولاء من اقتصد في رأيه والتزم الموضوعية وأصول البحث والنظر، ومنهم من غالى مغالاة وصلت في بعض الأحيان إلى الإسراف بل والتحامل الذي يكاد أن يحسب تحاملاً على الإسلام ذاته.
وهذا التعدد والتنوع والاختلاف والتضارب، يضع على عاتق الباحث الموضوعي مهمة اتقاء مغالاة من غالوا وابتعدوا عن الموضوعية وعن أصول البحث والنظر وعن القصد والاعتدال ـ وأن يبحث بنفسه في الأصول ليكون رأيه صافيًا بعيدًا عن الغلو أو عن هذا التصارع الشديد الذي كثيرًا ما ابتعد عن الموضوعية!
ومن المؤكد المقطوع به، أن رسول الله ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يستخلف أحدًا في حياته، ومن المؤكد المقطوع به أيضًا، أنه لاقى ربه دون أن يستخلف من بعده أحدًا، ولو فعل لانقطعت أي ادعاءات، ولا نقطع أيضًا أي خلاف، فما كان لأحد، من المهاجرين أو الأنصار، أن يدّعى شيئًا لم يأمر به عليه الصلاة والسلام، أو يوصى به!
وسيرة النبي عليه الصلاة والسلام تقطع بذلك وتؤكده، فقد خلت من أي أمر أو توصية بالخلافة، لا لأحدٍ بعينه، ولا بصفة عامة، وليس يخفي أن النبوة غير قابلة للتوريث أو الخلافة، فلا أحد أيًّا كان شأنه يمكن أن يخلف الرسول في نبوته.
أعود فأقول إنه من المؤكد المقطوع به أن الرسول عليه الصلاة والسلام لم يأمر ولم يوص بخلافة في شئون الدنيا، ولم يأمر أو يوص بخلافة أحد بعينه ليقوم على أمر المجتمع الإسلامي في شئون الدنيا، أما النبوة فلا مجال بداهةً وأصلاً للخلافة فيها.
ولو كان عليه الصلاة والسلام ـ قد أوصى لأحد، ما أباح الأنصار لأنفسهم أن يرشحوا أحدهم لولاية الأمر يوم سقيفة بنى ساعدة، ولو كان عليه الصلاة والسلام قد أوصى لأحد بعينه، لما جرؤ الفاروق على أن يقول لأبى عبيدة بن الجراح في ذلك اليوم: «امدد يدك أبايعك»، ولو كان قد أوصى لكان رد أبى عبيدة خلاف الرد الذي رد به، ولصرَّح في وضوح وجلاء بمن أوصى النبي أن تكون له إدارة المجتمع في شئون الدنيا، ولو كان عليه السلام قد أوصى، لالتزم أبو بكر الصديق بوصيته لحظة أن لحق بالسقيفة، ولاستند إلى من أوصى الرسول إليه بولاية أمر الدنيا، ولما كان قد بدأ بترشيح أي من الرجلين: عمر وأبى عبيدة!
ونستطيع بلا أي مصادرة، أن نمسك هنا بأول الخيط، أنه من المحال أن يكون رسول الإسلام ــ عليه الصلاة والسلام ــ قد خالف أصلاً من أصول الإسلام حين سكت عن استخلاف أحد.