الخلافة ليست من أصول الحكم في الإسلام (الأخيرة)

الخلافة ليست من أصول الحكم في الإسلام (الأخيرة)

نشر بجريدة الأهرام الاثنين 8/3/2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

أبحرنا في شأن الخلافة في بحور شتى، طفنا مع ابن خلدون أول من وضع علم الاجتماع، والعقاد صاحب الإسلاميات الضافية، والشيخ على عبد الرازق وما قدمه في الخلافة وأصول الحكم في الإسلام، والسنهوري ورسالته في فقه الخلافة، والدكتـور عبدالحميد متولى في كتابيه الشاملين المتميزين « نظام الحكم في الإسلام » و « أزمة الفكر السياسي الإسلامي في العصر الحديث ».

ورأينا اتفاقًا على أن الإسلام وضع مبادئ للحكم، ولكنه لم يفرض نظامًا بعينه للحكم، ولم يفرض الخلافة بذاتها شكلاً للحكم، ولم يحبذ فكرة الخلافة ويدعو إلى تهيئة أسبابها بعد أن انقضت، سوى الأستاذ السنهوري، ولكنه لم ينازع بل أقر بأن مـا تلا عهد الخلفاء الراشدين، لم يكن خلافة، وإنما كانت « خلافة ناقصة ».. لافتقادها البيعة وحق مراجعة الحاكم، مثلما افتقدت الحرية والعدل وحل محلهما الاستبداد والطغيان. ولا مراء في أن النقص الذي أقر به الأستاذ السنهوري، ينزع عن « مسمى الخلافة » عموده الأساسي، بحيث يغدو التمسك به مظهرًا لا وجود له في الحقيقة والواقع !

ولم أجد في المقابل؛ مرجعية وجيهة لمن يناصرون نظام الخلافة، ولم يقدموا سندًا صحيحًا لفرض هذا النظام من القرآن أو السنة، ولم يستطيعوا إنكار أن النبي عليه الصلاة والسلام، انتقل إلى الرفيق الأعلى دون أن يقرر خلافة، أو يختار ـ ناهيك بأن يفرض ـ خليفةً من بعده.

نحن جميعًا خلفاء في الأرض بالمعنى  الذي اختاره القرآن الكريم لاستخلاف الإنسان أو الأقوام في الأرض، وجعل الناس خلائف في الأرض وفيه قال الله للملائكة: « إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً »، وقال « هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأرْضِ ».

ولا مراء في أن الراشدين كانوا خلفاء بهذا المعنى. ولكن لم يكن أحدٌ منهم « خليفة لرسول الله » يخلفه في الرسالة، وإنما هي إمارة الحكم وولايته، ولم يدّع أحدٌ من الخلفاء الراشدين غير ذلك، ونُقل عن الفاروق رضى الله عنه أنه كان يأبى أن يُقال عن رأيه إنه مشيئة الله، وانتهر أحد جلسائه لأنه زعم ذلك، فقال له مؤنّبًا: « بئس ما قلت ! هذا

رأى عمر. إن كان صوابًا فمن الله، وإن يكن خطأً فمن عمر.. لا تجعلوا خطأ الرأي سُنةً للأمة »، وقد تلقوا هذا المعنى النابه عن الهادي البشير عليه الصلاة والسلام، فكان ينكر على الولاة أن ينتحلوا لأنفسهم « ذمة الله »، فيقول لآحادهم معلمًا: « لا تجعل لهم ذمة الله وذمة نبيه، ولكن اجعل لهم ذمتك وذمة أصحابك، فإنكم إن تخفروا ذممكم وذمم أصحابكم أهون من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله، وإذا حاصرت أهل حصن فأرادوك أن تنزلهم على حكم الله فلا تنزلهم على حكم الله، ولكن أنزلهم على حكمك، فأنت لا تدرى أتصيب حكم الله فيهم أم لا ».

لا خلافة لرسول الله عليه الصلاة والسلام في رسالته، ولا أحد في الإسلام يتكلم باسم الله أو نيابة عنه، أو يحكم بحكم الله أو نيابة عنه.

إن الخلافة ليست من أصول الحكم في الإسلام، فالإسلام قد أورد فيما يتعلق بالحكم مبادئ دستورية عامة، كمبادئ الشورى والعدالة والمساواة، ومن ثم لم يفرض على المسلمين نظامًا معينًا من أنظمة الحكم، ذلك أن الآيات القرآنية قد تركت تفصيل الأحكام لتنظيم الشورى وتحقيق العدل والمساواة، وكما يقول الأستاذ الكبير الشيخ عبد الوهاب خلاف، لتراعى فيها كل أمة ما يلائم حالها وتقتضيه مصالحها.

فالخلافة ليست من أركان الدين كما يرى الشيعة، بل ولا من أصول الحكم كما يرى بعض علماء السنة، إنما هي من المصالح العامة المفوضة إلى نظر الأمة، وأن المطالبة بقيام نظام الخلافة في عصرنا تتنافي مع مقتضيات الواقع في العصر الحديث، ولا محل للقياس على الخلافة الراشدة التي كانت حتى أواسط عهد خلافة عثمان بن عفان، ثم في خلافة الإمام على التي تواصلت مع ما كان في عهد أبى بكر وعمر.

ذلك أن مرد هذا النظام المثالي إلى توافر عناصر لم يعد شيء منها متوافرًا بعد ذلك، فقد كانت هذه الخلافة الراشدة قريبة عهد بنزول القرآن الكريم، مع بساطة الحياة ووجود صحابة من الرجال العظام الذين تأسوا بالقدوة الحسنة للرسول عليه الصلاة والسلام، فضلاً عن أن الثابت بمراجعة آيات القرآن الكريم وصحيح السنة النبوية، أن الإسلام قد جاء في شئون الحكم ـ بمبادئ عامة تصلح للتطبيق في مختلف الأزمنة والأمكنة، ولم يقيد بنظام معين من أنظمة الحكم.

وحاصل ذلك، أن الخلافة ليست أصلاً في الإسلام من أصول الحكم.

والمبادئ التي يتعين التزامها في الحكم، مبادئ واضحة جليّة في عشر آيات قرآنية، وفي السنة الشريفة التي لم تخالف الكتاب المبين.

وواضح أن الإسلام قرآنًا وسنةً، قد اكتفي بهذه المبادئ العامة، وهي تصلح للحكم والحكومة والحاكم، وتصلح للحياة العامة وما تستلزمه الحياة الخاصة أيضًا.

بيد أنه لم يرد في القرآن الكريم، ولا في السنة النبوية، إلزام بشكل ونظام حكومة معينة، ولو أراد الله تعالى أن يلزم المسلمين بشكل ونظام وحكم بعينه، لنص عليه في القرآن المجيد، وهو سبحانه القائل: « مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ »، ولازم ذلك أن خلو القرآن من تحديد شكل ونظام معين للحكم، أن إرادة الله تعالى لم تشأ ذلك، وإلاَّ لنصت عليه.

ولو كان النبي عليه الصلاة والسلام، أراد شيئًا من ذلك، لتحدث به حديثًا صريحًا محددًا، ولو كان يريد استخلافًا في شكل خليفة وخلافة ـ لأمر بذلك، ولو كان قد أراد أن يستخلف أحدًا بعينه، ما حجزه عن ذلك حاجز ولا حائل، ولكنه عليه الصلاة والسلام فارق إلى ربه، دون أن يستخلف أحدًا، ودون أن يعين أو يحدد خلافة، ودون أن يرسم أى شكل ونظام للحكم على المسلمين اتباعه والالتزام به.

نحن إذن أمام مبادئ عامة، تصلح للحكم ولغير الحكم، ويصلح بها حال الحكم وغير الحكم.

ولسنا بحاجة، إلى تأكيد أن أنظمة الحكم التي طالعناها في الدولة الأموية، وفي الدولة العباسية، وما تفرع منها أو وازاها، وفي الدولة العثمانية ـ لا علاقة لها بالإسلام ومبادئه وأحكامه، لا من قريب ولا من بعيد، بل إن ممارساتها، والدماء التي أراقتها على جدار السلطة، كانت مخالفةً صريحةً وصارخة للإسلام البريء براءة تامة من هذه الدماء، ومن هذه الممارسات الضالة الضريرة !!!

زر الذهاب إلى الأعلى