الحِوارُ.. تِلكَ الفَرِيضَةُ الغَائِبَةُ

بقلم: صابر شعبان أبو على المحامى

الإنْسَانُ هُو الكَائِنُ الذى يَمْلُكُ مَوهِبَةَ الكَلامِ.. وَلا كَلام بِلا حِوَار وَلَكِنْ ذَلِكَ الحِوَارُ يَتَطَلبُ انْفِتَاحاً وَتَبَادُلاً حُرَاً لِلأفْكَارِ بَينَ طَرَفَيْهِ فَالنَّاسُ فَي مُخْتَلَفِ العُصُورِ يَخْتَلِفُونَ فِي أَلْسِنَتِهِم وَمَدَارِكِهِم وَطِبَاعِهِم وَعُقُولِهِم وَمَعَارِفِهِم، وَهَذا الاخْتِلافُ يَنْعَكِسُ عَلى الاخْتِلافِ فِي الاتْجَاهَاتِ وَالآرَاءِ، وَعَلى الرّغْمِ مِنْ وُجُودِ هَذا التبَايُن بَينَ النَّاسِ فِي مُدرَكَاتِهِم وَعُقُولِهِم وَقَابِليَتهم للاخْتِلافِ فَكَانَ لا بُد مِنْ الحِوَارِ لِحَلِ الخِلافَاتِ بَينَهم فَالغَايةُ مِنَ الحِوَارِ دَفْعُ الشُبْهَةِ وَالتَعَاوُنِ بَينَ المُتَنَاظِرِين للتَوَصُلِ إلَى الحَقَائِقِ، وَإيَجَادِ حَل مُعْتَدِل يُرْضِي جَمِيعَ الأَطْرَافِ بِمَعنَى أَنْ يَتِم التعَرُف عَلى وِجْهَاتِ نَظَرِ الأَطْرَافِ كَافَة عَنْ طَرِيقِ الأَخْذ وَالرد تَمْهِيداً إلَى تَنَوِيع التَصَورَاتِ المُتَاحَة مِنْ أَجْلِ الوُصُول إلَى أَفْضَلِ النَتَائِج ، وَوِحْدَةُ الهَدَفِ هُو شَرْطٌ أَسَاسِي فِي الحِوَارِ وَهُو مَنْهَج قُرْآنِى وَتَوجِيه إلَهِى فِي قَولِ الحَقِ تَبَاركَ وَتَعَالى:
” قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ” سورة آل عمران الآية (64 )
وَاسْتِخْدَامُ مَفْهُومِ الحِوَار لَيْسَ جَدِيداً، فَيَرَى البَعْضُ أَنّ الحِوَارَ هُو المُرَاجَعَة فِي الكَلامِ بِهَدَفِ الوُصُولِ إلَى مَفَاهِيمٍ مُتَقَارِبَةٍ وَتَشْخِيصٍ مُوَحَدٍ بِهَدَفِ حَل المُشْكِلات وَالأُمُور العَالِقَة إِنْ أَمْكَن، فَأفْلاطُونُ كَانَ يُؤْمِنُ بِأَنَّ الحَقِيقَة لا تَكُونُ حَقِيقَة فِعْلاً مَا لَمْ يَتَقَبَلهَا الآخَرُ وَأَنَّ الأَفْكَارَ لا تَكْتَسِبُ قُوةَ الإقْنَاعِ مَا لَمْ تُحَاوِر أَفْكَار الآخَر وَمَفْهُوم الحِوَار هُو نَوع مِنْ الحَدِيث بَينَ فَرْدَين، أَو فَرِيقَين يَتِمُ تَدَاول الكَلام فِيه بِطَرِيقَة مُتَكَافِئة، فَلا يَسْتَأثِر بِهِ أَحَدُ الأَطْرَافِ دُونَ الآخَر، دُونَمَا تَعَصُبٍ أَو تَغَلُبِ … تَحَاوُر لا تَنَافُر.
فَالحِوَارُ فِي الحَيَاةِ العَمَلِيةِ فِي أَزْمَةٍ مَرْجِعُها إلَى التّنْشِئَة التِى تَعْتَمِدُ عَلى السُلطَةِ الأَبَوِيةِ التِى فِي الغَالبِ الأَعَمِ تَخْلُو مِنَ النِّقَاشِ وَالحِوَارِ العَائِلِى الحَمِيم وَتَرتَدُ كَذَلِك إلَى النِّظَامِ التَعْلِيمِى الذى يَفْتَقِدُ إلَى الحِوَارِ التَربَوى فَالمُعَلمُ يَرتَكِنُ إلَى التَلْقِينِ وَ يَظُنُ نَفْسَهُ مُلزمَا بِالكَلامِ مِنْ طَرفٍ وَاحِدٍ دُونَ تَشْجِيع الطُلاب عَلى المُنَاقَشَة وَالمُحَاوَرَة.
وَلِلحِوَارِ آدَابٌ وَقَوَاعِدٌ يَجِبُ عَلى المُتَحَاوِرِين الالتِزَام بِها مِنْهَا الابْتِعَاد عَن التَعَصُبِ لِلآرَاءِ وَالأفْكَارِ وَاسْتِخْدَام الأَلفَاظِ اللينَة الحَسَنَة فَالكَلامُ نَوعَان .. نَوعٌ كَالوُرُودِ الجَمِيلَة التِي تُنْعِش الآخَرِين بِعِطْرِها وَنَوعٌ كَالقَنَابِلِ التِي تَنْفَجِر فِي وُجُوهِ الحَاضِرِين وَمِنْ آدَابِ الحِوَارِ أيضَاً الاعْتِمَاد عَلى البَرَاهِينِ وَالحِجَجِ وَالدَلائِلِ الصَحِيحَة وَ الابْتِعَاد عَن التَنَاقُضِ فِي الرَّدِ عَلى الطَرفِ الآخَرِ.
وَيَجِبُ تَوفّر سِمَتَيْ الكَفَاءة فِي الحِوَارِ وَفِقْه الحِوَار فِي المُحَاوِرِ وَذَلِكَ بِمَعْرِفة مُسْتَوى
التَحْصِيل العِلمِي لِلطَرَفِ الآخَرِ، وَفَهم نَفْسِيَته، وَقُدرَاتِه الفِكْرِية وَيَجِبُ أَنْ يَتَحَلى المُحَاوِرُ بِالتَوَاضُعِ فِي الفِعْلِ وَالقَولِ، وَالابْتِعَاد عَنْ الإنْكَارِ وَالاحْتِقَارِحَتى يَكُون الحِوَارُ مُثمِرَاً وَيَسْتَطِيعُ المُحَاوِرُ أَنْ يَصِل بِأَفْكَارِهِ إلى الطَرَفِ الآخَر فَكَمَا قَالَ الفَيلَسُوف نِيتْشَه:
” كَثِيراً مَا نَرفُض فِكْرة مَا لِمُجَرَد أَنَّ النبْرَة التِي قِيلَت بِهَا تُثِير النُفُور”
وَهُنَاكَ فَارِقٌ وَاضِح بَينَ مَفْهُوم الحِوَار وَالجِدَال، وَكُلٍ مِنْهُمَا لَهُ أهْدَاف وَمَدلُولات، وَالفَرقُ بَينَهُمَا هُو أَنَّ الجِدَالَ يَعْنِي اللدَدَ فِي الخِصَامِ، وَ المُقَاوَمَة بِهَدَفِ المُغَالَبَة وَالمُنَازَعَة، وَالحِوَارُ قَدْ يَتَحَولُ إلَى جَدَلٍ مَذْمُومٍ بِسَبَبِ أَنَّ الطَرف العَاجِز عَنْ الحِوَارِ لَا يَعْتَرِفُ بِعَجْزِهِ بَل يَنْسُبُ ذَلِكَ إلَى الطَرفِ الآخَر فَتَتَخَلل الحِوَار العَصَبِية وَالتعَصُب لِلرَأي
فَالحِوَارُ مُمْكِنَاً- وَلو اخْتَلَفَت طَبَائِعُ الأَطْرَاف وَتَبَايَنَت مَصَالِحُهُم وَتَوجُهَاتِهم- شَرِيطَة تَوافُر الرغْبَة فِيهِ وَالتحَلِى بِآدَابِه وَالتخَلِى عَمّا يُحِيله إلى جَدلٍ عَقِيمٍ فَالهَدفُ الأَسْمَى مِنْ الحِوَارِ هُو الوُصُول إلَى الحَقِ، وَلَيسَ الانْتِصَار عَلى الطَرَفِ الآخَرِ.

زر الذهاب إلى الأعلى