الحيوان العاقل
من تراب الطريق (1135)
الحيوان العاقل
نشر بجريدة المال الأربعاء 7/7/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
يقول علماء الاجتماع إن الإنسان حيوان عاقل، وتسعة أعشار شقاء أو متاعب الآدمي، مصدرها عدم اعترافه بهذه الحقيقة، وبأن عقله وذكاءه ـ ميزتان أضيفتا إلى حيوانيته أولاً وأخيرًا، لخدمتها خدمة أفضل أمتع وأكمل ـ مما تهيأ لسائر شركائها في الحيوانية. لماذا ؟ ولماذا جاءت تلك الإضافة بذلك الحجم والسخاء الزائدين عن حاجات وظائف الحيوان ؟ الله تعالى وحده يعلم !! الواقع أن هذا الجانب الغريزي في الآدمى لا يأخذ ولا يستعمل مما في حقيبته العقلية الهائلة ـــ إلاَّ أقل القليل.
قد تقرأ كتابًا لأفلاطون أو جوستاف فلوبير أو الجاحظ، فيغير في نظرتك لما معك وما حولك.. وهؤلاء قد ماتوا وفارقوا دنيا الناس من قرون بعيدة قبل أن نولد. ومع ذلك فإن عقولهم تخاطب عقلك، لأن بعض أفكارهم مدونة في كتبهم التي تقربهم إليك، وربما كان هذا شأن بعض من كانوا يسمعونهم حال حياتهم. فالكتاب من حيث مادته، والصوت من حيث صفاته وطبقاته وأسلوبه، ومن حيث هو وسيلة تقارب مادية بين اثنين أو أكثر من الأحياء. هو ضمن عناصر مادية واسعة الاستعمال كدافع إلى التخاطب، ولكنها ليست عناصر في ذات التخاطب، لأنه تخاطب عقول لا ينهيه الموت، ما دام يوجد حىّ يشترك في المخاطبة والخطاب. بل لا ضرورة لمعرفة صاحب الفكرة.. فكم من الأفكار والأقوال متداولة بين البشر في مختلف الأزمنة ولا نعرف ولا يعرفون أصحابها. لأن المهم هو بقاء الأفكار في أدمغة الأحياء من الآدميين أو تحت تصرفهم، أو يكون في وسع الأحياء العثور عليها في بحثهم عنها ما جدوا في البحث عنها فيما يثيرهم إلى البحث من محيطهم.
يولد وعينا مع ميلادنا وينمو مع نمونا. لكننا ننساه !.. ننساه في بداياتنا وننسى وظيفته ومهمته وضرورته للعقل والإرادة والاختيار، وننسى لذلك حاجته الدائمة إلى اليقظة والتيقظ وإلى مقاومة الإغفال والغفلة، إذ منها يدخل ويتسيد في وعينا ـ الوهم والغرور والطمع والكبرياء، أو عكس ذلك الشعور بالصغار أو الكآبة أو التشاؤم أو القنوط أو اليأس من أنفسنا !
واليقظة أو التيقظ اعتياد يحتاج الإحساس بوجوده إلى المحافظة على تنميته، لأنه مــن المقومات الأساسية للوعى … وعموم الآدميين يشتركون في عموم الوعى، لكنهم على الدوام يختلفون في مقداره في كل عمر ومناسبة وموقف وربما أيضًا في كل مكان ! ودواعى اختلافهم فيه أفرادًا وجماعات ـــ وهى لم تنقطع ولن تنقطع ـــ تزيد كثيرًا عن دواعى اتفاقاتهم التي يضمن بقاءها غالبًا اعتيادهم على تنفيذها.. ولعل لهذه الاختلافات أصلاً في خلقة الإنسان من أصول دفعه إلى الانتشار ومن ثمَّ إلى التنوع !
إن فن الحياة إلهام ونبوءة وليس تاريخًا أو حقيقة.. وبقدر ما يكون للحياة شكل، تكون فنا.. ودولة الفن تماثل الجمال الذى يعمل الإنسان فيه سيطرته المتبصرة الحازمة على عالم المادة والحركة، وعلى عالم الخفقات العشوائية الداخلية والعمليات التلقائية التي تؤلف كيانه الداخلى.
نحن نأخذ حياتنا أفرادًا وجماعات بجميع ظواهرها ومعالمها من الحياة نفسها، دون أن نضيف إليها شيئًا ما جديدًا لم يكن لديها فعلاً.. وجميع ما أضفناه أو نضيفه معنويًا كان أو ماديًا ـ خـال خلوًا تامًّا من الحياة، وبحاجة دائما إلى تدخل آدمى ليكسبه المعنى والغرض والوظيفة التي تعطيه قيمة في نظر الأحياء.. ويظهر مواته وخواؤه وإفلاسه إذا اختفي الآدمى من الوجود وانقطع اتصاله الحى بأى آدمى !
قيل لأحد العارفين: كم تتعب نفسك ؟
قال: راحتها أريد !