الحكومة في الإسلام

الحكومة في الإسلام

نشر بجريدة الشروق الخميس 7 / 1 / 2021

بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين

حين كتب الأستاذ العقاد كتابه: «الفلسفة القرآنية» سنة 1947، كان قد ظهر كتابان عن أصول الحكم في الإسلام، أحدهما كان رسالة دكتوراه بالفرنسية سنة 1926 قدمت في باريس، عن «فقه الخلافة» أو نظرية الخلافة، وهي الرسالة الثانية للفقيه الكبير الأستاذ الدكتور عبدالرزاق السنهوري، وترجمتها إلى العربية بعد سنوات ابنته المرحومة الدكتورة نادية عبدالرزاق السنهوري، بمراجعة وتعليقات وتقديم زوجها أستاذ القانون والمحامي الكبير الدكتور توفيق الشاوي، وهي رسالة قيمة عميقة، قدمت نظرية الخلافة في الإسلام، بيد أنها اعتمدت في استخلاصها على ما سارت عليه حكومة الخلفاء الراشدين باعتبار أنها أقامت الأصول الشرعية لنظام الحكم الإسلامي، أما الدول التي جاءت بعدها، سواء الأمويين أو العباسيين أو العثمانيين أو دويلات الأسر التي تفرعت عنها، فقد اعتبرها الأستاذ السنهوري «خلافة ناقصة»، حالة كونها جميعًا مع انتسابها للإسلام وإقرارها بمبدأ الشورى والبيعة، إلاَّ أنها لم تلتزم بشيء من ذلك، ولم تحترم المبدأ، وأقامت حكمها على الوراثة، وكانت عناية الأستاذ السنهوري ــ الشاب آنئذٍ ــ بالخلافة، تتجه إلى تحقيق وحدة الأمة في صورة تنظيم سياسي يضمن لها المكانة الدولية، وإزاء تسليمه بأن الظروف الحاضرة يتعذر فيها إقامة الخلافة الكاملة الصحيحة، فإنه لا بد فيما ارتأى ــ من إقامة خلافة ناقصة بها بناء على خطة تمكنها من أن تستكمل تدريجيًّا مقومات الخلافة الراشدة الكاملة، وعلى تفصيل لا يتسع له هذا المجال.

أما الكتاب الآخر في الموضوع، فكان على الاتجاه المضاد، أصدره الشيخ الأزهري علىّ عبدالرازق بعنوان «الإسلام وأصول الحكم» سنة 1925، وهو كتاب يقوم مبناه على أن «الخلافة» ليست أصلا من أصول الحكم في الإسلام، وأثار وقت صدوره ضجة كبرى، وأدى إلى سحب العالمية الأزهرية من المؤلف، وفصله من القضاء وكان قاضيًّا شرعيًّا، ورئيسًا للمحكمة الشرعية في المنصورة، وعادَى الكتاب أكثرية، وانتصرت له أقلية تزايدت مع الزمن، وأثار ويثير قضايا لا تزال متداولة إلى اليوم، حول الخلافة ومعناها، وهل هي أصل أم لا من أصول الحكم في الإسلام، وهو ما أرجو أن أختم به الكتاب الجاري نشره تباعًا في مقالات بالمصور عن الدماء التي سالت على جدار السلطة خروجًا عن مبادئ الإسلام.

وإنما عنيت بهذه المقدمة، أن أنوه إلى أن كتابة الأستاذ العقاد عن الحكومة في القرآن، اختارت طريقًا أفضل في تحقيق الغاية، استقطرت فيه المبادئ التي وردت بالقرآن الحكيم وتحكم أي حكومة حالة كون المجتمعات لا غناء لها عن نظام يحكمها وحكومة تنهض عليه، أيًّا كان مسماها، وإنما العبرة بجوهرها، وهي عند الأستاذ العقاد واستخلاصًا من القرآن ــ حكومة غير ثيوقراطية، تقوم على مبدأ الشورى، وعلى حقوق متوازنة بين الحاكم والمحكوم، وهي باختصار الحكومة الديمقراطية في أصلح أوضاعها، لأنها حكومة الشورى، والمساواة، ومنع السيطرة الفردية أي الاستبداد، وهو يحتكم في هذا الاستخلاص إلى القرآن الحكيم ذاته، ولا ينشغل أو يحتكم إلى سواه.

ويحتكم الأستاذ العقاد من البداية، إلى سبع آيات قرآنية، يستهل بها حديثه:

« وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ».

« وَشَاوِرْهُمْ في الأَمْرِ ».

« وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ».

« إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ».

« إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ».

« يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ».

« وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ ».

وجملة ما يقال في هذه الحكومة المحكومة بهذه الآيات القرآنية، أنها الحكومة التي لمصلحة المحكومين، لا لمصلحة الحاكمين.. يُطاع الحاكم ما أطاع الله، فإن لم يطعه فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

« أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِى الأَمْرِ مِنكُمْ ».

« وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ ».

ويرى الأستاذ العقاد أن كل أركان حكم الأمة قائم في هذه الحكومة التي أرسى القرآن مبادئها، ولكن الأمر فيها ليس بكثرة العدد، أو بالطبقة الكثيرة من بين سائر الطبقات، وهو رأى قد لا يتفق معه آخرون يرون أن الديمقراطية لا تميز ولا تفرق وأنها إعمال لرأى الأكثرية أو الأغلبية وكفي، بيد أن العقاد يقدم لرأيه الذي يتفق مع الرأي القائل بأن الشورى لأهل الحل والعقد، يقدم لرأيه بأن القرآن الحكيم تعددت فيه الآيات التي تنص على أن الرأي والفضل والذمة والعلم ــ ليست من صفات أكثر الناس على التعميم، ويقفي بأمثلة تصادق ذلك من آيات القرآن الكريم، تتكرر أحيانًا بلفظها، وتُكرر أحيانًا بمعناها في مواضع شتى من السور القرآنية.. وهي تصف الناس عامة، كما تصفهم بعد البعثة المحمدية..

« وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن في الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُون َ»

« أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالاَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلا ».

« وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا ».

« وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ».

« وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ».

« وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ».

« وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ».

الأكثرية وأهل الحل والعقد

وفي اعتقادي أن استشهاد الأستاذ العقاد بما ورد في القرآن عن الأكثرية، لم يكن لموافقة فكرة « أهل الحل والعقد » أصحاب الشورى في الإسلام، وإنما يعبر عن رأى خاص للعقاد في الديمقراطية ظل يلازمه، وعن وجوب التمييز بين ملكات وقدرات الأشخاص، وربما كان رأيه في البطل والبطولة، وأن هناك من الأشخاص من يصنعون التاريخ ــ أثرًا لهذه النظرة الخاصة المترسخة لديه، وربما ظاهَرَهُ أن الممارسات أو التجارب الديمقراطية لابسها في البعض منها ــ ما قد يسمى روح القطيع أو الغوغائية، وقد جر عليه رأيه نقدًا وصل إلى حد الهجوم، وقد رأينا كيف اعترض الدكتور لويس عوض بشدة على ما أبداه بشأن الجمهور الذي أطلق عليه « الملك ديموس » في نقده لقلة الوعى عند الكتل فيما كتبه بمقاله عن التمثيل المنشور بمجموعة «مطالعات بين الكتب والحياة » ــ وقد عقبت على رأى الدكتور عوض بأن إيقاظ الجمهور، أو لفته إلى عيوب ممارساته ــ ليس ضد الديمقراطية، وإنما هو من باب التنوير والإصلاح. ( ص156 المجلد/1 في مدينة العقاد).

على أن الأستاذ العقاد لم يعرض هنا في كتابه الفلسفة القرآنية، إلى شيء من ذلك، وإنما هو قد عرض آيات قرآنية أبدت حكمها في شأن « الأكثرية » وما يعتورها أحيانًا، وأوردها في معرض استخلاصه للفلسفة القرآنية في شأن الحكومة.

ومع ذلك يبقى السؤال، هل حديث الآيات القرآنية عن حال « الأكثرية » ــ مسوق في شأن الحكومة على التحديد؟ وهل لا يتضمن سحبه على الحقوق السياسية نوعًا من الاعتساف صادف معتقد الأستاذ العقاد الشخصي في شأن الكثرة العارية من الفهم أو المقدرة، وهو معتقد يختلف معه فيه كثيرون، ومن أظهر عيوبه في التطبيق أنه ليس لأحد أن يميز بين الناس: هذا قادر وهذا غير قادر، أو أن هذا أهل وهذا غير أهل، أو أن هذا فاهم وهذا عاطل من الفهم ــ ولذلك لم تجد الديمقراطيات أمامها لاتقاء عدم الصلاحية لمباشرة الحقوق السياسية، إلاَّ أن تضع شروطًا عامة قابلة للتطبيق ــ كالسن والمؤهل ــ في تحديد قاعدة بيان أصحاب حقوق مباشرة الحياة السياسية.

وخلص الأستاذ العقاد إلى أنه إذا كانت طاعة أكثر الناس تضل عن سبيل الله، أو تضل عن الصواب، فإنه ليس من الرشد لهم أو لغيرهم أن يكون لهم الحكم الصالح.

وإنما تبعات الحكم ــ فيما أورد ــ على الأمة كلها بجميع عناصرها، وترجع الشورى إلى أهل الشورى، وهي لا تكون لغير ذي الرأي وذي الحجة، ويصبح المؤمنون كالإخوة في المعاملة « إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ »، بيد أن العالمين منهم أحق بالطاعة.

زر الذهاب إلى الأعلى