الحبشة واستهداف النيل من قديم (3)
نشر بجريدة الوطن الجمعة 29 / 10 / 2021
ــ
بقلم: الأستاذ/ جائى عطية نقيب المحامين
استنتجت جريدة الأهرام فـى قراءتها لأحداث الاستهداف لميـاه النيـل إضـرارًا بمصر ، أنه لا شك أنه قد جرت بعدئذ اتصالات سياسية بين ممثلى بريطانيا وكل من حكومة أديس أبابا من جانب وحكومة واشنطون من جانب آخر ، الأمر الذى دفع ممثل الحكومة الحبشية الدكتور مارتن إلى التوجه لى إنجلترا لمحاولة القضاء على المعارضة البريطانية ، ونتوقف قليلاً عند هذه الشخصية التى قامت بالدور الأساسى للتوصل إلى الاتفاق مع شركة المقاولات الأمريكية « هويت » .
فى ليفربول حيث نزل الدكتور مارتن كان القنصل المصرى فى الانتظار ، وقد أراد صاحبنا أن يبدد المخاوف المصرية فأكد للقنصل أن الاتفاق على بناء السد لم يوقع بعد ، وأن بلاده تريد أن تبنى الخزان لتبيع المياه إلى السودان (!)
ويبدو أن الرجل لم ينجح فى إقناع المسئولين فى الحكومة البريطانية بالمشروع ولا بالاتفاق مع شركة هويت ، مما دفعه إلى التراجع ، الأمر الذى عبر عنه فى تصريح وصف فيه القصة بأنها سوء تفاهم كبير وأنها ليست أكثر من عاصفة فى فنجان ، « ولم تكن ثمة محاولة للإخلال بالتزامات تعهدت بها بريطانيا ، ومن ثم لم تر الحبشة ضرورة لإخبار الحكومة البريطانية ، خاصة وأنه لم يكن لدى الحكومة الحبشية أية نية لاعتراض سيل الماء » .
تبع هذا الاستسلام أن قرر الدكتور مارتن طى أوراق المشروع والإقفال عائدًا إلى بلاده ، غير أن كل ذلك على ما يبدو لم يبدد الهواجس النيلية لأبناء الكنانة ، وهو الأمر الذى تولاه مسئولون وخبراء من المصريين أنفسهم خلال الأيام الأخيرة من عام 1927 .
ويبدو مما نقلته الأهرام ، أن عثمان محرم باشا وزير الأشغال ، كان أول من سعى إلى تهدئة خواطر المصريين ، فذكر فى حديث له مع الأستاذ محمود أبو الفتح مندوب الأهرام ، أن النيل الأزرق الذى يأتينا بالطمى ، لا يستمد كل مياهه من بحيرة تانا ، وإنما يستمد معظم مياهه من النهيرات العديدة التى تصب فيه وتغذيه ، وهذه المياه هى التى تأتى بالطمى إلى مصر ، وليس مياه بحيرة تانا التى لا تمد النيل الأزرق إلاّ بنسبة ضئيلة ، فضلاً عن أن هذه النسبة الضئيلة لا تحمل طميًا حالة كون مياه البحيرة راكدة رائقة .
وذكر وزير الأشغال المصرى ، أن ما يستمده النيل الأزرق من البحيرة ، يبلغ عشر مياهه ، وأن ما يصب فى النيل من مياه البحيرة فى موسم الفيضان لا يزيد على 5ر7% وفى مدة التحاريق من 3 إلى 6 % من جملة ما يأتى إلى النيل الأزرق .
ورغم أن الأهرام احتفت ـ فيما ذكرت ـ بهذا الحديث ، ونشرته فى عناوين ضخمة فى صفحتها الأولى نصها « حديث هام مع وزير الأشغال عن مسألة بحيرة تانا » غيـر أنــه يبدو أن ذلك لم يكن كافيًا لتهدئة خواطر المصريين ، خاصة وأن الوزير قدم إجابات غامضة ومبتسرة ردًا على أسئلة مندوب الأهرام , لائذًا بأن الأرقام ليست أمامه ليقدم إجابة دقيقة !
لذلك اهتمت الأهرام ـ طمأنة للمصريين ـ بالبحث عن مصادر أخرى .
الأمير محمد على ـ رد على تساؤل الأهرام معترفًا « بأنه ليس مهندسًا غير أن مع ما يعرفه عن حالة النيل والمياه التى تمر به وتضيع فى البحر المتوسط تجعل لا محل لأن يفزع المصريون من الأخبار التى وردت عن مشروع إنشاء خزان على بحيرة تانا بأموال أمريكية .. لا محل للخوف فى رأيه لأن الخزان الذى سينشأ يحمل كمية معينة من المياه ، فإذا امتلأ فلا بد من أن يفيض الزائد فى طرقه الطبيعية التى يندفع فيها منذ ألوف السنوات »
أما الأمير عمر طوسون المعروف عنه اهتمامه بالنيل ، فقد جاءت إجابته بما يمكن توصيفه ، فيما قالت الأهرام بالتناول المشوب بالحذر .. بدا التفاؤل فى قوله « إن المشروع قد يكون فى مصلحة مصر لأنه سيؤدى إلى تنبه بنيها وتيقظهم ومعرفة ما يضر بلادهم وما ينفعها ، والحذر بأن نصح المصريين أن يأخذوا الحيطة لذلك ويدرءوا عن أنفسهم هذه الأخطار بعد أن عرفوا أن نهر النيل من منبعه إلى مصبه يجب أن لا تتحكم فيه يد أجنبية وأن يكون الإشراف والسيطرة عليه لمصر وحدها ما دامت حريتها مرتبطة به ارتباطًا وثيقًا منذ بدء الخليقة إلى الآن »
وظنى أن رد عمر طوسون لا يوصف بما وصفته به الأهرام ، بل هو قرعٌ للأجراس ، وتحذير للمصريين مما يمكن أن يحيق بهم من أضرار بسبب تحكم الأجانب فى منبعه إلى مصيبه !
وفى انحياز للطمأنة ، قدمت الأهرام مقالاً على حلقتين يومى 10 و 12 نوفمبر 1927 ، للمهندس إبراهيم زكى ، تحت عنوان : « بحيرة تانا خرافة تاريخية » ، ولم تخف الأهرام تأييدها لتصريحاته ، وأنها يمكن أن تبدد هواجس المصريين من المشـروع . فقد أبدى :
1 ـ إن حجز مياه البحيرة سبع سنوات متتالية معناه إعلاء منسوب مائها أكثر من تسعة أمتار ، وهذا يؤدى إلى غرق كل الجزائر بما فيها من مبان ، ولن يكون أمام سكانها سوى الرحيل أو الموت غرقًا !
2 ـ تصبح هذه البحيرة بركة ماء راكدة ومصدرًا للحميات القاتلة لبقية سكان الحبشة .
3 ـ يترتب على سد البحيرة جفاف ثلاثة مجارى كانت مصدرًا لمياه للبلدان إلى مسافة عشرين كيلومترًا .
4 ـ سد مخارج البحيرة بالتراب وما يتصل بذلك من دوام عملية الترميم ، خصوصًا بعد سبع سنوات ، أمر لا يمكن للأحباش تحمل نفقاته الطائلة .
5 ـ ما يمكن أن تتعرض له البلاد الواقعة على ضفتى النيل فى السودان وجنوب مصـر عند فتح الخزان بعد عدد من السنوات ، إذ تنبأ بضياع مدينتى الخرطوم وأم درمان ثم ضياع مصر السفلى كلية فى أقل من عشرة أيام ، وهو حادث لم يرو التاريخ مثله !
6 ـ لن تشعر مصر إطلاقًا بحجز هذه المياه إذا لاحظنا أن مياه النيل تتغير بفروقات هائلة من عام لآخر ، والذى وصل عام 1916 إلى 60 ألف مليون متر مكعب بينما كل ما يصل إلى مصر من البحيرة زمن الفيضان لا يتجاوز 2500 مليون متر مكعب .
وإذا كانت كل تلك الكتابات قد هدّأت من هواجس المصريين هذه المرة ، إلاّ أنها لم تتوقف ، وإذا كان السد العالى قد ضبط مياه النيل بشكل حاسم ، إلاّ أنه أضاف هاجسًا نيليّا يستغله خصوم مصر بالتلويح بين الحين والآخر بإمكانية تدميره ، بكل ما يترتب على ذلك من نتائج وخيمة ، ويعبر عن ذلك ما يردده إفيجدور ليبرمان وزير البنية التحتية فى حكومة شارون ، وهو فى هذا لم يعتبر بما أصاب اللورد اللنبى أحد رجال الإمبراطورية البريطانية فى ذروة مجدها !
يبقى أن ننتبه إلى أن الأطماع قديمة ، وأننا لا يجب أن نهدأ لحظة عن التصدى لها .