الحاجة الإنسانية إلى الشريعة الإسلامية (2)
من تراب الطريق (1163)
الحاجة الإنسانية إلى الشريعة الإسلامية (2)
نشر بجريدة المال 23/8/2021
بقلم: الأستاذ/ رجائي عطية نقيب المحامين
أستاذنا العلامة المرحوم الدكتور الشيخ محمد يوسفي موسى هو صاحب هذا التعبير، وترك لنا مجلدات ثلاثة بعنوان « الإسلام وحاجة الإنسانية إليه »، ومنه استلهمت هذا الحديث.
والحاجة إلى الشريعة، فرع على الحاجة الإنسانية إلى الدين ـ وكما أن اللغة كائن متطور، فإن الفقه بدوره ـ في استنباطه الأحكام من أدلتها الأصلية بالدين ـ كائن حي متطور، ماديًا ومعنويًا، أجل لم ينشأ من العدم، فهو مستمد من الدين وبداية إرهاصاته معه، إلاًّ أنه لم يبلغ كماله طفرة واحدة، يكاد يكون قد بما يشبه مراحل عمر الإنسان، تلك المراحل التي تبلغ أوجها في مرحلة الرجولة والكهولة، ثم يدركها الهرم في مرحلة الشيخوخة.
نعرف أن القرآن الكريم نزل في أمة تغلب عليها الأميّة، ولكنه نزل بلغتهم فصاورا بإيمانهم به حملة الإسلام ووعائه وناشريه، ساعدتهم ذاكرتهم الحافظة على مغالبة الأميّة والتي تناقصت مع الوقت.
لم يكن لدى العرب عند نزول الإسلام، ما كان للروم والفرس من علوم وفلسفات وثقافة، فلم يعتنوا إلاَّ بعلم اللسان واللغة والشعر، وبرواية السيَر والتواريخ، وشيء من علم التنجيم الذي اضطرتهم إليه ظروف الحياة، ولكنهم عرفوه بالتجربة، لا على طريق العلم المدروس بالحقائق.
ومن العلماء من يذكر أن العرب كانت لهم عناية ببعض العلوم.. « علم النجوم », وما يختص به من الاهتداء في البر والبحر, واختلاف الأزمان باختلاف سيرها، ومنها علم «الأنواء »، وأوقات هبوب العواصف ونزول الأمطار، ومنها بدائيات علم الطب الذي كان يقوم على التجارب، وليس على الأصول التي عرفها الأوائل من حكماء اليونان.
ومن المتفق عليه بين المؤرخين أنه كان للعرب قوانين أو قواعد تحكم حياتهم ومعاملاتهم، ويمكنك أن ترى في عبقرية خالد للأستاذ العقاد، النظام السياسي والاجتماعي والمالي الذي كان يحكم قريش وبطونها قبل الإسلام، وبداهة لم تصدر تلك القوانين أو القواعد الاتفاقية عن سلطة تشريعية، وإنما كانت أعرافًا مستمدة من ضرورات الحياة وما يعترضها ويوجب أن تكون على شيء من النظام الاتفاقي.
ومن المعروف من تاريخ الأمم والشعوب، أنه كان لكل مجتمع أيًا كانت درجته من الحضارة أو الفكر النظري والعملي، خطة من القواعد القانونية التي تجرى عليها عقوده ومعاملاته وتصرفاته المالية، فضلاً عن المسائل الشخصية المتعلقة بالزواج والأسرة، وسلطة رب الأسرة، صعودًا إلى سلطة رب القبيلة.
لذلك ليس غريبًا أن عرف العرب في جاهليتهم قواعد قانونية غير قليلة، قامت عليها معاملاتهم وصلاتهم بمجتمعهم. ومن هذه أعراف أقرها رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام لما رآه فيها من عدم المخالفة عن مبادئ وقيم الإسلام، ومن هذه الأعراف ما يتعلق في القبيلة أو الحي، وقواعد التعامل في البيوع والشراء والتصرفات والعقود أقر الإسلام ما وجده منها صحيحًا صالحًا للبقاء، وألغى ما كان منها غير صالح.
وكان الربا من تلك الأعراف الفاسدة التي ألغاها، وقرر الإسلام ــ قرآنا وسنة ــ أنه حرام، لأن فيه أكل أموال الناس بالباطل، كما كان مما نهى عنه أنواع من البيوع شاعت أو عرفت في الجاهلية، فنهى عنها لما تؤدى إليه من غرر ومنازعات.
جاء بإسناده عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه قال للسائب بن أبى السائب وقد جاءه يوم الفتح: [ كنت شريكي فنعم الشريك ! كنت لا تدارى ولا تمارى ]. وقد روى أيضًا بألفاظ أخرى. وقال ابن هشام، وهو يتحدث عن زواج الرسول بخديجة بنت خويلد: « وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة ذات شرف ومال تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم ».
من ذلك نرى أن العرب عرفوا في الجاهلية عقد الشركة والإجارة والمضاربة، وهى عقود أقرها الإسلام لأن الحياة العملية تستلزمها أو تحتاج إليها، ثم وضع « الفقه » فيما بعد قواعدها وشروطها وحدودها، لمصلحة المتعاقدين معًا في حدود شريعة الإسلام.
كما عرف العرب عقد السلم، وهو شراء الشيء، الذي لم يوجد بعد بثمن عاجل حال، ولهذا نجد الرسول حين ينهى عن بيع المعدوم، لما فيه من الغرر والخطر، يستثنى السلم إذ كان نوعًا من المعاملات التجارية المعروفة قبل الإسلام وبخاصة عند أهل يثرب، ولما يكون في منعه من الحرج، والتضييق على الناس.