الجنس الرقمي

بقلم الدكتور أشرف نجيب الدريني

هل يمكن للتقنية التي صُنعت لتقريب البشر أن تتحول إلى وسيلة لفصلهم عن إنسانيتهم؟؛ وهل يمكن لتطبيق عابر على الهاتف المحمول أن يصبح أداة للإغواء، وسوقًا خفية للجنس، ووسيطًا للاستغلال، ومجالًا لجرائم عابرة للحدود؟؛ وهل تكفي النصوص التقليدية لمواجهة جرائم تنمو في بيئة افتراضية، أم أننا أمام حاجة ملحّة لإعادة بناء “فلسفة القانون الجنائي” ليظل قادرًا على حماية القيم والإنسان في آن واحد؟ هذه الأسئلة واقعًا، تفرض نفسها يوميًا على أجهزة العدالة وعلى وجدان المجتمع، وتُلزمنا بطرحها بجدية حتى لا نجد أنفسنا نلاحق الظلال بينما ينهش “الواقع” قيمنا من الداخل.

الجنس الرقمي يمثل نقلة نوعية في الممارسة والتسويق والإخفاء؛ إذ انتقل من اللقاء المادي إلى المحادثة الرقمية، ومن الإشارة الخفية في شارع مظلم إلى إعلان مباشر أو مشفّر داخل تطبيق. لم تعد الجريمة تحتاج إلى وجود مادي، بل قد تبدأ وتنتهي في “الفضاء الافتراضي”، عبر صور أو مقاطع أو اتفاقات مالية تُبرم إلكترونيًا. وهكذا أصبح “الوسيط الرقمي” شريكًا أصيلًا ومحركًا أساسيًا للفعل الإجرامي، يتيح للمستغلين التخفي وتغيير الأقنعة دون أن يتركوا أثرًا يسهل اقتفاؤه.

وتزداد خطورة المشهد مع الفضاءات المظلمة مثل “الدِب ويب” و”الدارك ويب”، حيث الغرف الحمراء وغرف الدردشة التي تُستخدم لاستقطاب الضحايا من مختلف الأعمار، وتُدار عبر التشفير والعملات الافتراضية والهوية المجهولة؛ في هذه العوالم تتوارى الحدود بين الواقعي والافتراضي، إذ قد تبدأ القصة بمحادثة عابرة وتنتهي بابتزاز أو اتجار بالبشر أو استغلال جنسي منظم، بما يعكس قدرة التقنية على إعادة إنتاج الجريمة بوسائل لم يكن الخيال يتصورها قبل عقود قليلة.

القانون الجنائي يواجه هنا معضلة دقيقة: فهو مطالب بالحفاظ على الثوابت القيمية والأخلاقية للمجتمع، وفي الوقت ذاته عليه أن يواكب واقعًا متغيرًا لا يعترف بالحدود. الاكتفاء بالقواعد التقليدية يؤدي إلى الجمود والقصور، والتوسع غير المنضبط في التجريم يهدد الحريات الأساسية وحق الخصوصية.

ويبرز كذلك موقع مقدمي الخدمة الرقمية الذين لم يعودوا وسائط محايدة، بل أصبحوا الوسطاء الرئيسيين في المعادلة. فالمنصات والتطبيقات تمتلك البنية التقنية التي تسمح للجريمة أن تنشأ وتستمر، ما يجعل واجب العناية عليهم التزامًا قانونيًا لا خيارًا أخلاقيًا. هذا يقتضي توفير آليات فعّالة للإبلاغ، وتدابير سريعة للحذف، وتعاونًا منضبطًا مع السلطات القضائية، مع ضمان حماية المستخدمين من الرقابة المفرطة.

غير أن المواجهة تصطدم بثلاث ثغرات متشابكة: تقنية، تتمثل في أدوات التشفير وإخفاء الهوية ووسائل الدفع اللامركزية التي تعقد الإثبات؛ وتشريعية، ناتجة عن اختلاف تعريف الجريمة بين الدول بما يخلق مناطق رمادية تسمح بالإفلات من العقاب؛ وإنسانية، تكمن في خوف الضحايا من الفضيحة أو الوصم الاجتماعي، ما يمنعهم من الإبلاغ ويحرم القانون من فرصة حمايتهم.

ولسد هذه الفجوات تبرز الحاجة إلى أدوات إثبات متكاملة تحفظ الدليل الرقمي وتجعله صالحًا أمام القضاء: أوامر الحفظ المؤقت للبيانات، والتوقيع الزمني الرقمي، وسلسلة الحيازة الموثقة.

وتتطلب المواجهة مؤسسات متخصصة: وحدات تحقيق رقمية داخل النيابات العامة، تدريب القضاة على قراءة الأدلة التقنية، بروتوكولات تعاون مع مزودي الخدمة، وآليات دعم فعلي للضحايا تشمل الرعاية النفسية والقانونية وإزالة المحتوى المسيء. وإذا كانت التكنولوجيا أداة في يد المستغلين، فإنها يمكن أن تصبح أداة للحماية عبر الذكاء الاصطناعي وأنظمة الرصد الذكية، بشرط أن تُستخدم في إطار ضوابط تحمي الحرية من المراقبة الجماعية.

في النهاية، لا تكمن الإجابة في النصوص وحدها ولا في التقنية وحدها، بل في معادلة دقيقة: قانون مرن يواكب التطور دون أن يتنكر لجوهر العدالة، وتقنية منضبطة تُسخّر للحماية لا للاستغلال، وقضاء يضمن أن تبقى الكرامة الإنسانية الغاية والحد الفاصل. الجنس الرقمي ليس مجرد جريمة مستحدثة، بل اختبار إنساني وقانوني عميق لمدى قدرة الإنسان على أن يظل سيدًا للتقنية لا أسيرًا لها، ولقدرة القانون على أن يتنفس مع الزمن ويحمي القيم التي وُجد من أجلها. والله من وراء القصد.

زر الذهاب إلى الأعلى