الجدوى والحياة !

الجدوى والحياة !

نشر بجريدة أخبار اليوم السبت 26/9/2020

بقلم: أ. رجائي عطية نقيب المحامين

قد ينسى الإنسان ما يمر به كل يوم من العادي اليومي المألـوف؛ الـذي يتكـرر بلا انقطاع؛ ولا يتغير إلاَّ عند المرض أو الحوادث الشخصية المهمة أو المؤثرة أو السجن أو ما شابه ذلك.. لا يتوقف مجرى هذا العادي بسبب الثورة أو الحرب أو الهجرة.. لأن هذا العادي هو أوليات ولبنات الحياة نفسها، والثورة والحرب والهجرة لا تكون إلا من أحياء وبين أحياء.. وهى حالات طارئة تطرأ على حياتهم لا تمحوها ولا يمكن أن تعطلها كلية.. فالكل لابد أن يأكل ويشرب وينام ويضحك ويتكلم ويسعى لعيشه ويفرح ويحزن وينضج ويشيخ ويلتقى الذكور بالإناث وتتولد الأولاد ويرى مألوف السن والموت !

ومضىّ الزمن يبعد عنّا الأشياء والأشخاص، ويخفى التفاصيل؛ ويعطى الجميع طابعًا مجردًا أسطوريًّا غير حقيقي ـ ويفقدها باستمرار المشابهة بنا وبأشيائنا الحاضرة ويجعلها من طراز غير طرازنا الحاضر ! فنحن ندخل في عالمنا العقلي اليومي ما هو قريب ويسمح لنا بقدر من المعرفة التفصيلية ، أما البعيد الذى لا نعرفه أو لم نعد نعرف تفصيلاته ؛ فإننا لا نحرز منه إلا صورة عامة من تركيب الذاكرة والتصور والخيال أو من التعلم بالمعنى الواسع لهذه الكلمة .. وهذه كلها صور عامة غير واقعية ؛ وبيننا وبينها اختلاف الحىّ المتعين بتفاصيله عن التصور الغامض الذهني الذى قد يبقى رمزًا لمحاسن عامة أو عيوب عامة . ومضى الزمن إذ يأكل تفاصيل الوقائع والأحياء لا يسمح بالدوام والبقاء .. والانتقال بالتواتر لا يحدث إلا بالنسبة لما صار مجرد صورة أو رمزًا أو أسطورة حتى حين نصفه بأنه تاريخي وجزء من التاريخ !

وعدم رضانا عما يتعين ويحدث باطراد في حياتنا ـ قد يبدو أنه شيء يتعارض مع تمسكنا بالحياة وحرصنا عليها ، لكن الحال أننا نتمسك بالحياة نفسها كما هي .. كإمكانيات واستطاعات وآمال ورغبات ومخاوف ؛ ولا نتمسك بتعيناتها سواء المنسوبة إلينا أو إلى الآخرين أو إلى الطبيعة .. ويبدأ تمسكنا بها يضعف حين يداخلنا شك قوى بأن حياتنا ليس فيها أكثر مما تعين وحدث فعلاً .. أي ليس فيها أكثر مما رأيناه ورآه غيرنا منها .. عندئذ نبدأ فقدان إيماننا الحيواني أو الطفلي بها وبجعبتها التي لا تنفد ، ويضمر أو يتلاشى اعتقادنا بأن عندها ما قد يرضينا أو لابد أن يرضينا بطريقة أو بأخرى رضاء ليس تافها ولا عرضيا ولا وهميًّا !

ويبدو أن معظمنا يعيش أغلب الوقت دون أن يهتم بالحكم على حياتنا وقيمتها ، تحت فرض أن الحياة قيمة في ذاتها على أ حال ومهما كانت .. وقليلون من يتوقفون لينتزعوا أنفسهم من تيار الحياة ليتأملوا حياتهم ويسبروا مواضع النجاح أو الإخفاق فيها ، ومرجع هذا وذاك ، وأسبابه ، وهى وقفات تسلس إلى تقدير قيمة حياتنا تقديرًا قائمًا على أسس موضوعية ، مرجعها إلى العقل والتأمل والتفكير .. والإحساس بقيمة الحياة ، إحساس إيجابي يصب في الموقف منها وفى العناية بما يصنعه الإنسان فيها ، وبما يحرزه أو يفشل فيه ، وهى بهذا وذاك حياة غالية ونعمة أعطانا إياها الخالق البارئ جل شأنه ، والحصيف من يقدرها حق قدرها وما عليه من رسالة أو واجبات فيها ، وقيمة الوقت والعمر بالقياس إلى ما يستطيع إحرازه .

ويبدو أن عدم تقدير قيمة حياتنا ، هو الذى يفسر إنفاقنا لها كيفما اتفق بلا حساب ولا عناية وترك الآخرين يدلفونها إلى إنفاقها بلا عناية ولا احتمال .. كأن فكرة الجدوى غير أصيلة بالنسبة للحياة .. ولكن الخلط بين الجدوى وبين العناية غير معقول بالنسبة للحياة .. فالحياة تستلزم العناية بها .. وإذا كانت الجدوى سؤالاً لا تسأله الحياة الطبيعية ، وإنما يسأله عقل الإنسان العاقل فقط ـ فإن العناية تتطلبها الحياة والطبيعة في أدق الأشياء وأكبرها ؛ هذه العناية هي قوام الحياة ، ومعقد كل رجاء فيها ، والرجاء ليس مجرد حلم أو تمنى ، وإنما سعى وكفاح ومناضلة ، تحترم الوقت ولا تبدده ، وتحترم العمل وتقدسه ، وترى حبات العرق على جبين العاملين شرفًا لا يعدله أي مظهر ـ خالٍ من المعنى والمضمون . الحياة رسالة تتناقض وإياها تبديدها عبثًا بغير طائل . إنها صك الآدمي يوم تقوم الساعة !

زر الذهاب إلى الأعلى