الثقافة المنشودة لصناعة مُحامٍ مُتميز (3)

بقلم: د. حمدي أبو سعيد
(1)
تمهيد:
تناولت في (الجزء الثاني) من المقال أهمية الثقافة للمحامي ولكل من يشتغل بالقانون على اعتبار أن “الثقافة” هي الحياة بالنسبة للمحامي، فهي التي تعمل على تنمية وتطوير فكره وأدائه وتُميزه عن غيره من ضعيفي الثقافة، وهي تمثل الزاد والملاذ والسلاح القوي الذي لا غِناء عنه للمحامي، وتكمن أهمية الثقافة للمحامي ولكافة المشتغلين بالقانون في هذه النقاط الموجزة:
1 – لمَّا كانت التقوى بمعنى (مُراقبة الله جلَّ وعلا في السِّرّ والعلن) هي خير الزاد؛ فإن “الثقافة” مع “التَّقوى” هي أفضل الزاد للمحامي، بل هما الزاد الذي لا يُمكن الاستغناء عنه؛ فالتَّقوى تمد المحامي والقاضي ورجل القانون أيّاً كان موقعه بالتجرد والإخلاص والصدق والأمانة وحُسن الخلق .. والثقافة هي التي تمد المحامي بما يحتاجه من زاد علمي وثقافي وعلوم ومعارف تُساعده على اتقان عمله القانوني في إعداد مُذكرات الدفاع والطعون، وتجويد البحث والدراسة واتقان الصياغة والكتابة القانونية، والتفنن في الإجابة على الفتاوى والاستشارات، والتميُّز في حُسن العرض وقوة الأداء في المُرافعات، والقيام بذلك كُلِّه على أكمل وجه ..
2 – والثقافة للمحامي هي السلاح القوي، الذي يمدُّه بالحجة والبيان وحُسن العرض والمنطق، والمحامي لا يملك غير سلاح الكلمة والمنطق القوي والحجة الدَّامغة في مُواجهة رجال الشرطة والنيابات والقضاء، وفي مواجهة خصوم الدَّعاوى في ساحات المحاكم دفاعاً عن مُوكليه، وأنَّى له ذلك إذا لم يكن لديه علم قوي يهديه، وثقافة واسعة تحميه ..
3 – والثقافة للمحامي هي (الحِلْية) بكسر الحاء بمعنى (الزينة)؛ فالثقافة زينة المحامي في حلِّه وترحاله وفي سائر شؤونه، حيث تُضفي لكلماته معنى ولباقة، وتعطي لأسلوبه حلاوة وطلاوة، وتمنح لكتابته فصاحة وبلاغة، وبدونها تبقى كلمات المحامي مُفككة لا رابط بينها ولا اتصال، باردة لا روح فيها ولا حياة ..
4 – و الثقافة للمحامي هي التي ميَّزت الجيل الذهبي من الآباء الأوائل المؤسسين؛ كالزعيم الوطني مصطفى كامل، وخليفته المؤرخ محمد فريد، والهلباوي ، ومصطفى مرعي، والفقيه السنهوري باشا، والاقتصادي الوطني طلعت حرب، والدكتور محمد عبد الله محمد وغيرهم كثير من أساطين المحاماة، ومن يُتابع سيرة ومسيرة هؤلاء الأفذاذ يُدرك ما كانوا عليه من علم غزير وثقافة موسوعية شاملة ليس لها مثيل في واقع المحاماة المُرّ اليوم، إلاَّ ما ندر ..
5 – و الثقافة للمحامي هي سفينة النجاة ومركب السلامة، الذي يحول دون الوقوع في أخطاء كارثية فادحة، تكون سبباً في ضياع الحقوق، وإهدار العدالة، وتقرير الظلم والفساد، و تشريد الأُسر وخراب البيوت ..
6 – والثقافة للمحامي هي التي تُميزه عن غيره من أقرانه؛ فالمحامي المثقف مُتميزٌ في علمه وعمله وأدائه وأسلوبه في الكتابة والمرافعة والتدريس والخطابة والحوار والمناقشة والمنازلة والمناظرة، عن غير المثقف العييِّ العاجز، الذي لا تُسعفه الكلمات، وسرعان ما ينكشف أمره عند المُواجهات، ويظهر أثر الثقافة وأهمتها واضحاً جليَّاً عند النزال في ساحات المحاكم وغيرها ..
ومن هُنا كانت “الثقافة” هي “الحياة” للمحامي ولكل مُشتغل بالقانون، فاعتبروا يا اولي الأبصار، فالعاقل اللبيب هو من يستمع القول، أو يقرأ البيان فيتَّبعُ أحْسَنَهُ، وقديماً قالوا: من جرَّب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي .. فالثقافة .. الثقافة يرحمكم الله ..

(2)
فوائد و (إيجابيات) الثقافة للمحامي:
إذا أردنا فعلاً أن نتعرف على فوائد وإيجابيات الثقافة، التي تصنع مُحامياً مُتميّزاً، وتاريخاً مُشرِّفاً ناصعاً لصاحبة الجلالة “المحاماة”؛ فتعالوا بنا نعيش قليلاً في رحاب الماضي الجميل، وفي صُحبة شيخ القُضاة والمحامين عبد العزيز باشا فهمي الرئيس الأول لمحكمة النقض المصرية، والنقيب الثاني للمحامين، وهو يقف مُخاطباً جموع القُضاة والمحامين في افتتاح الجلسة الأولى لمحكمة النقض في الخامس من نوفمبر سنة 1930م، فيقول: ((“إنَّ سروري يا حضرات القُضاة وافتخاري بكم ليس يعدله إلاَّ افتخاري بحضرات إخواني المحامين الذين أعتبرهم كما تعتبرونهم أنتم عماد القضاء وسُنَّادُهُ .. أليس عملهم هو غذاء القضاء الذي يُحييه؟! .. ولئن كان على القضاء مشقة كُبرى في البحث للمقارنة والمفاضلة، فإنَّ على المحامين مشقَّة كُبرى في البحث للإبداع والتأسيس ..
وليت شعري أي المشقَّتين أبلغ عناء وأشدُّ نصباً .. لا شكَّ أن عناء المحامين في عملهم عناء بالغ لا يقل البتَّة عن عناء القضاة في عملهم .. بل اسمحوا لي أن أقول: إنَّ عناء المحامي – ولا يُنْبِئُكَ مِثْلُ خَبِير – أشَدُّ في أحوال كثيرة من عناء القاضي؛ لأنَّ المبدع غير المُرَجِّحِ”)) [نجوم المحاماة – لمعالي المستشار عبد الحليم الجندي (ص11)].. هكذا كانت النظرة إلى المحاماة والمحامين؛ وهذه النظرة أو هذه الشهادة العظيمة من شيخ القُضاة في عصره بعظمة المحاماة والمحامين جاءت بفضل ما كان عليه المحامون من علم غزير وثقافة موسوعية كبيرة .. وحتى تعود المحاماة إلى عصرها الذهبي؛ فلا بُد من سُلوك نفس الطريق الذي سلكه آباؤنا .. طريق العلم والثقافة، لا مناص عن ذلك ..

وإذا أردنا نعرف قدر العلم والثقافة بالنسبة لدى الجيل الذهبي من أعلام المحاماة ورموزها الكبار، فهذا هو على سبيل المثال: عبد العزيز باشا فهمي، كان حافظاً للقُرآن الكريم، وكان مُتمكناً في اللغة العربية، فتم اختياره عضواً بمجمع اللغة العربية بالقاهرة، وكان شاعراً مُجيداً، وأديباً حاذقاً له ديوان شعر مخطوط، وله كتب في الأدب والفلسفة والتراجم وغيرها، فضلاً عن عشرات المقالات والدراسات في شتَّى فنون المعرفة، ولو استعرضنا المنجز الثقافي الكبير لدى أعلامنا من كبار المحامين لطال بنا المقام، و لاحتجنا إلى عشرات المقالات، ورُّبما أعود بمشيئة الله تعالى إلى دراسة الواقع والمُنجز الثقافي لدى كبار المحامين وأعلامهم في مقالات قادمة لتحفيز الجيل الحالي من المحامين على القراءة والثقافة والاطلاع ..
ويُمكن أن أعرض لأهم فوائد أو (إيجابيات) الثقافة للمحامي في عناصر مُوجزة، على النحو التالي:
1 – إنَّ المناهج الدراسية الأكاديمية لتكوين المحامين والقُضاة في كُليّات الحقوق والشريعة والقانون على مستوى الشهادة الجامعية الأولى “الليسانس”، وحتى على مستوى “دبلومات الدراسات العُليا” تُعطي الدَّارسين بها مُجرد (مفاتيح) أو (مُقدِّمات) أو (مداخل) للعلم والثقافة القانونية فقط، وهي غير كافية لصناعة “مُحام” مُتمكن مُتميز في مهنته أو قاضِ مُجيد مُتعمِّق في علمه، وهذه المناهج يشوبها بعض القُصور فيما يتعلَّق بعدم تعميق التطبيقات العملية سواء في البحث العلمي، أو المرافعة، أو فن الكتابة والصياغة، أو المنهجية القانونية المطلوبة في إعداد المذكرات والاستشارات، وكيفية البحث في المصادر والمراجع، واستخراج الأحكام القضائية من مجموعات محكمة النَّقض وغيرها، فضلاً عن عدم فتح آفاق الدَّارسين إلى أهمية الثقافة الموسوعية، وإعدادهم لذلك من خلال اعتماد مُقرر دراسي لمادة (المنهجية القانونية) التي تُدرَّس في جامعات فرنسا والغرب وبعض الجامعات العربية المحدودة، وتتضمن شيئاً ولو يسيراً من أسماء بعض الكتب والمصادر والمراجع القانونية وغيرها من مصادر العلوم والدراسات المتنوعة التي يحتاجها المحامي وكل مُشتغل بالقانون طوال مسيرته المهنية ..
2 – الثقافة هي التي تمد المحامي بالمعلومات والمعارف والتجارب والخبرات والمهارات والوسائل المتنوعة التي تُعينه على إعداد مُذكرات الدفاع والطعون والبحوث والدراسات و الفتاوى والاستشارات التي يكتبها، وتَمُدُّه بأساليب البيان والبلاغة المطلوبة لدفاعه ومُرافعاته ..
3 – الثقافة هي حصن المحامي وسلاحه ودرعه الذي يتحصَّن به في مُواجهة الأعمال القانونية بأقسام الشرطة والمحاكم والنيابات وقاعات الدروس والمحاضرات والنَّدوات، والمجتمع بأسره ..
4 – إنَّ الثقافة الموسوعية الشاملة هي التي تُعين المحامي على حُسن السباحة والابحار والغوص في أعماق الموسوعات والمجموعات العلمية، لاستخراج اللآلىء والدُّرر والجواهر والفوائد العلمية والعملية والتاريخية والأدبية والطبية والفلسفية والتاريخية وغيرها، التي يحتاجها المحامي المتميِّز للانطلاق والإبداع في مسيرته المهنية كاتباً، وباحثاً، وخطيباً مُدافعاً عن حقوق مُوكليه، وأسداً هصُوراً مُدافعاً عن الحُقوق والحُرِّيات، وحُقوق الإنسان ..
5 – ومن أين يتأتَّى للمحامي أن يكون باحثاً مُجيداً، أو فقيهاً مُجتهداُ، إذا لم يجرد المطولات من الكتب والمصادر المتنوعة للثقافة القانونية وغيرها، وإذا لم يتمكن من دراسة فن كتابة المذكرات والبحوث والمقالات والصياغة القانونية؟ .. ولن يكون له ذلك إلاَّ إذا وصل دأبه وطاف قارئاُ ودارساً ومُتعلِّماً بين رياض الكتب والدِّراسات والموسوعات المتنوعة في الفقه، وفي (أصول البحث العلمي ومناهجه)، لا يكتفي في ذلك بالتَّعرُّف على (أصول البحث العلمي القانوني)، وإنما يسعى جاهداً إلى الإلمام بأصول ومناهج البحث العلمي في الدراسات الأدبية والعلوم الاجتماعية والإنسانية، وحتى الدراسات والعلوم التطبيقية مُستفيداً من أصول البحث العلمي ومناهجه ..
6 – ومن أين يتأتَّى للمحامي أن يكون مُترافعاً جيِّداً؟! .. أو أنَّى له أن يضبط لسانه وقلمه ويصونهما عن اللَّحن والخطأ، إذا لم يدرس النَّحو والادب والبلاغة وسائر علوم اللغة العربية، وفنون المرافعة والخطابة، وعلوم الحِجاج والمنطق، وعلم النَّفس والاجتماع وغيرها من العلوم والمعارف التي تُساعده على بلوغ المكانة المرموقة في فن المرافعة والدِّفاع في قاعات المحاكم ..
7 – ثُمَّ من أين يتأتَّى للمحامي أن يترافع في قضية مُرتبطة بعلوم الطب أو الهندسة أو الادوية أو الفنون دون أن يكون لديه اطلاع وثقافة تُمكّنُه من فهم بعض المصطلحات والمفاهيم المرتبطة بالقضية ..
8 – إنَّ الثقافة تُساعد المحامي على فهم واقعه المحلي، ومُحيطه الإقليمي، وعالمه الدّولي، وتُعينه كذلك على فهم الواقع القانوني للدول والمجتمعات، فلا يعيش بمعزل عن عالمه ..
9 – إنَّ الثقافة الموسوعية الشاملة صنعت جيلاً من عُظماء المحاماة ورجال القانون، وإذا أردت أن تقف على ذلك، فاقرأ كتاب (الوسيط في شرح القانون المدني) لشيخ القضاة والمحامين العلاَّمة الفقيه الدكتور عبد الرزاق السنهوري باشا، فستجد من عمق المعاني ودقة الصياغة وفصاحة اللغة وحسن العرض والترتيب والتبويب والتقسيم ما يسُر الأدباء والبلغاء العارفين بلغة القُرآن العظيم من فحول المحامين والقُضاة المتمكنين، وسترى آثار الثقافة الموسوعية الشاملة عند السنهوري باشا، وتقلبه بين رياض العلوم العربية والشرعية والفلسفية وفقه وأصول الشريعة الإسلامية واصحاَ جليّاً، وهكذا كانت سائر كتب ومُصنفات عظماء مهنة المحاماة وشيوخ القضاء ..
10 – مدى حرص جيل العظماء من شيوخ المحاماة والقضاء على الثقافة والاستزادة من العلم والمعرفة، فقد سمعتُ غير ذي مرَّة أستاذنا القاضي الفقيه الدكتور عوض المُر رئيس المحكمة الدستورية العُليا الأسبق رحمه الله؛ وهو يقول: (لم يطب لي الفصل في المنازعات والجلوس على منصة القضاء حتى قرأتُ كتاب ((المُوافقات في أصول الشريعة)) للإمام أبي إسحاق إبراهيم بن موسى الشاطبي رحمه الله (ت 790هــ) بتصحيح العلامة الشيخ عبد الله دراز، وولده الدكتور محمد (رحم الله الجميع)، وكنت أتعجب من هذا، وأقول بأنَّ هذا الكتاب يُعدُّ من أهم مصادر علم (أصول الفقه ومقاصد الشريعة الإسلامية) في تخصصها الدقيق جدّاً، فما دخل هذا بالقضاء .. فلمَّا قرأتُ أحكام المحكمة الدستورية العُليا التي كتبها أو علَّق عليها أستاذنا الدكتور عوض المُر (رحمه الله)، أدركتُ تماماً ما كان يقصده ويرمي إليه أستاذنا الجليل ! ..
أولئك آبائي فجئني بمثلهم *** إذا جمعتنا يا جريرُ المجامعُ ..
ولا يخفى أثر الثقافة وفوائدها الكبيرة التي تعود بالنفع على المحامي مكانة وتقديراً واحتراماً، و تعود على مهنة “المحاماة” نهضةً ورفعةً وارتقاءً ..

(3)
أضرار وسلبيات الإفلاس و(الضمور الثقافي) لدى المحامي:
إن الضمور أو الإفلاس الثقافي أو (انعدام الثقافة) لدى المحامي أو أي مشتغل بالقانون له اضراره وسلبياته ومخاطره الجسيمة على المحامي وعلى مهنة المحاماة برُمَّتها، ويُمكن أن يتسبب هذا الضمور أو الإفلاس الثقافي لدى المحامي في أمور كارثية لها تداعياتها وانعكاساتها الخطيرة، سأتناول أهمها بإيجاز على النحو التالي:
1 – إن من أهم أضرار وسلبيات الإفلاس والضمور الثقافي أو انعدامه لدى المحامي: تضييع حُقوق من يُدافع عنهم من الُموَكلين، وهي جريمة لا تعدلها جريمة، والسبب هو تقصير المحامي الذي لم يتزود بالعلوم والمعارف والثقافة اللازمة التي تُمكنه من القيام بمهمته في الدفاع عن مُوكليه على أكمل وجه، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تُحصى ..
2 – ومن أضرار وسلبيات انعدام الثقافة لدى المحامي هو تضييعيه لنفسه .. فكيف سيتأتَّى لمُحام ضَحْل الثقافة أو عديمها أن يكون له درور بارز أو موقع في عالم المحامين الكبار ..
3 – إنّ الإفلاس أو الضمور الثقافي لدى المحامي يتسبب في الإساءة والانتقاص إلى مهنة ” المحاماة” وإلى زملائه ” المحامين”، ويُساهم في جلب السخط والانتقاد المُخزي للمحاماة والمحامين من أعضاء النيابة ورجال القضاء وغيرهم، والمشكلة الكُبرى في مجتمعاتنا العربية أنَّ الحسنة تخُص، وأنَّ السيئة تَعُم ..
4 – إن الضمور والانكماش الثقافي لدى المحامي يتسبب في تضييع الكثير من الفُرص التي تساعده على الظهور والبروز بين أعلام المهنة ورموزها، ونجوم المجتمع ومشاهيره؛ ولا أقصد بذلك أن يكون هَمُّ المحامي وحرصه هو تحقيق الظهور والبروز والشُّهرة إطلاقاً، ولكنني أقصد هُنا بالبروز والشُّهرة والظهور أن يكون المحامي صاحب رسالة يبذل من أجلها وقته وماله، ويسعى لتطوير نفسه علميّاً وثقافيّاً، وأقصد كذلك أن يكون المحامي موضع احترام وتقدير زملائه ومحيطه ومجتمعه بسبب ثقافته وعلمه وأمانته وحُسن خُلقه، فمن يتميَّز علميّاً وثقافيّاً واخلاقيّاً فمن المؤكَّد أنه سيحظى باحترام وتقدير وثقة الجميع، خاصة و أنَّ مجتمعنا المعاصر لا يرحم الضعفاء، ولا يعتد بهم، إذ يعتبرهم عالة عليه؛ وبخاصة أصحاب المهن من الأطباء والمهندسين والمحاميين وغيرهم من عديمي العلم والثقافة والأمانة والضَّمير والأخلاق ..
5 – إن الإفلاس الثقافي أو انعدام الثقافة المطلوبة لدى المحامي ساهم في ظهور الكثير من الظواهر السلبية المرفوضة التي أصابت مهنة صاحبة الجلالة “المحاماة”، والتصقت بها زُوراً وبُهتاناً، مثل: (ظاهرة المحامي الفهلوي – ظاهرة عليم اللسان الذي يُضيع الحقوق ويُضلل العدالة – الرشوة (بأنواعها المتعددة) – النَّصب وخيانة الأمانة – التلاعب بالموكلين .. إلخ) من هذه الصور السيئة والظواهر السلبية التي شوهت جمال ورسالة وقُدسية وطهارة مهنة “المحاماة” كما رأيناها عبر التاريخ، وفي عصرها الذهبي الجميل .. كان الإفلاس الثقافي والأخلاقي السبب الرئيس في هذه الظواهر السلبية التي لطخت جبين “المحاماة” وأساءت إليها كثيراً، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله ..
6 – إن الضمور والإفلاس الثقافي أو انعدام الثقافة المطلوبة لدى المحامي ساعد كثيراً على ظهور أحوال وأوضاع مرفوضة من الانحطاط والتردي الأخلاقي نراها ونُشاهدها في بعض الحملات الانتخابية للنقابة، وفي بعض اجتماعات الجمعية العمومية، تتثمل في سُلوكيات لا تمت للمحاماة ولا للمحامين الشُّرفاء فرسان الكلمة وأصحاب المبادئ والمُثل والقيم الرفيعة بصلة؛ مثل: (عدم احترام وتوقير الكبار من شيوخ المهنة ومعرفة حقهم وفضلهم، وهو أخطرها على الإطلاق – انعدام اخلاق وقيم الفرسان النُّبلاء في المنافسة – الإسفاف والألفاظ النابية – السباب والمهاترات – البلطجة – عُلُّو الصوت والصُّراخ – الكذب والتدني والفجور في الخصومة – غياب آداب الحديث والاستماع والرد بأدب وهدوء – تحويل المنافسات الشريفة إلى صراعات ومعارك يُستباح فيها التهديد والوعيد وكل خُلق ذميم .. إلخ هذه السلوكيات المرفوضة المستنكرة التي لا تليق بالمحامين أصحاب الرسالة في الدفاع عن الحق والعدل ..
7 – إن الإفلاس الثقافي أو انعدام الثقافة المطلوبة لدى المحامي ساعد على هذه الحالة التي وصلت إليها ” المحاماة” اليوم، من فقدان الثقة في المحاماة والمحامين، ومن تقليل هيبة واحترام وتقدير المحامين لدى كثير من الناس، وفي أقسام الشرطة والنيابات والمحاكم، حيث كثرت الاعتداءات والتطاول على المحامين في مشهد يسبب الحزن والألم العميق لكُل مُحام صادق أمين خلوق مثقف .. فهل أدركنا حجم ما وصلنا إليه بعد أن فقدنا أغلى ما يُميز المحاماة والمحامين لدى الكافة، وهو العلم والثقافة والتَّجرُّد والمصداقية والأمانة وحُسن الخُلق .. ولله الأمر من قبْلُ ومن بعد ..
ومع كُلِّ هذا، فلا زال الخير باقِ، وسيبقى ما بقيت السماوات والأرض، وقد رأينا آثار هذا الخير بحمد الله وفضله، في هذا التغيير التاريخي الرائع الذي شهدته نقابة المحامين أخيراً بوصول أستاذنا العالم الجليل المفكر معالي النقيب رجائي بك عطية إلى منصب نقيب المحامين، ورئاسة اتحاد المحامين العرب .. وإني والله لأستبشر بهذا التغيير المُوفَّق خيراً كثيراً للمحاماة والمحامين في مصر والعالم العربي، وأسأل الله لمعاليه والمجلس الجديد كُلَّ توفيق، ولصاحبة الجلالة “المحاماة” كُلَّ رُقي وازدهار .. هذا، والله من وراء القصد ..

للتأمل:
مع كلمة من الزمن الجميل للنقيب الأول للمحامين الأستاذ إبراهيم الهلباوي بك، يُخاطب بها المحامين، قائلاً: (ليعلم المترافعون .. أنَّ أسمى مراتب المحاماة وأعلى معانيها، هو أن يقفوا في جانب مظلوم تحالفت عليه القوى، وأن يتحملوا معه شطراً مما يُقاسيه، فهذه هي حقيقة المحاماة) ..
* – للموضوع –صلة- في مقال آخر ..

زر الذهاب إلى الأعلى